ألفة السلامي تكتب: زيارة من القلب!
ADVERTISEMENT
هذا الوصف يصلح ليكون عنوانا لزيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى مصر، حيث عكست صدق النوايا والإرادة للارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى مستوى الطموحات لدى الشعبين، وتنطبق على لقاء القمة بين الرئيسين "السيسي" و"سعيّد" تلك المقولة التي دائما تتردد عندما يأتي ذكر تونس ومصر وهي أن "الشعب التونسي هواه مصري والشعب المصري هواه تونسي"! وما يٌؤتى من القلب بعزيمة صادقة لابد أن يُثمر نتائج صلبة يمكن البناء عليها لتحقيق التقدم المنشود؛ وأول الغيث قطرة.. وكان كرذاذ الربيع الذي يقوّي سنابل القمح ويصلب طولها قبل جنيها.. وتمثل أول الغيث في الاتصال الذي أجراه أمير قطر بالرئيس السيسي للتهنئة بحلول شهر رمضان. وقد ربط المراقبون بين هذا الاتصال الأول من نوعه، منذ التوقيع على "بيان العلا" الخاص بالمُصالحة العربية مع قطر خلال القمة الخليجية الـ41، وبين اتصال سابق أجراه الرئيس قيس سعيّد ليلة عودته من القاهرة إلى تونس مع الأمير تميم بن حمد. وإذا صحت هذه الرواية فإن الرئيس التونسي توج زيارته لمصر بإذابة جبل من الجليد استمر بين القاهرة والدوحة منذ العام 2015 .
وأعود إلى الدفء الربيعي الذي ساد خلال زيارة رئيس تونس إلى مصر وانعكس في كمّ المشاعر الشعبيّة والرسميّة التي طوّقته وكانت صادقة من القلب وظهرت في حفاوة الاستقبال من الناس في متحف الحضارة الجديد، وفي خان الخليلي وشارع المعز والعتبة، وفي دار الأوبرا، وخط برليف في سيناء الحبيبة.
وقد أحبطت ما كان يتم ترويجه بواسطة العناصر "إياهم" حول ميول قيس سعيّد الإخوانية. ولعلّ المحطّات المهمّة في الزيارة أبلغ دليل للرد على تلك الافتراءات؛ وليس من قبيل الصدفة أن يزور الرئيس سعيّد قبر الزعيم جمال عبد الناصر ويضع باقة ورد ثم يقرأ الفاتحة ويدعو له بالرحمة في تأثر وخشوع، ثم نتأمل ما قاله من القلب لعبد الحكيم عبد الناصر نجل الزعيم الراحل: لقد حدّثه عن وجدان الشعب التونسي الذي تربّى على مواقف جمال عبد الناصر وخطبه وصراعه التاريخي ضد العدو الإسرائيلي.
كما استحضرا زيارة الزعيم جمال لتونس عام 1963 وبالتحديد بحرا عندما وصلت الباخرة إلى ميناء بنزرت للمشاركة في الاحتفال بجلاء القوات الفرنسية عن تونس، وكان الآلاف ينتظرونه للتحية تحت زخات المطر .. فهو أول قائد عربي يزور الخضراء للتهنئة بجلاء الاستعمار الفرنسي، فهل هناك رسالة أبلغ من زيارة "سعيّد" لقبر الزعيم للتعبير عن هذا الحسّ العروبي العميق؟ وكيف لا يستشيط الإخوان غضبا وغيظا.. وعداؤهم لعبد الناصر حياّ وميّتا وهو الذي كشف مؤامراتهم مبكرا ووقف بالمرصاد لمخططاتهم؟! وتلك المحطة هي غيض من فيض حيث كانت زيارة الرئيس التونسي إلى كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة محمّلة أيضا برسائل التسامح والمحبة وقبول الآخر، وهو عكس ما يطالب به تنظيم الإخوان من معاملة شركاء الوطن على أساس أنهم "أهل ذمة" ويتوجّب عليهم دفع "الجزية" وغير ذلك من الترّهات التي سمّمت أجواء المجتمع وزرعت فيه الفتنة وكان قيادات التنظيم يرددون تلك الأباطيل بإسم الدين الإسلامي عند حكم مرسي.
اقرأ أيضًا..ألفة السلامي تكتب: "ابن أمه" ومسلسل العنصرية في قصر باكنجهام
أما زيارة الرئيس سعيّد إلى مقر مشيخة الأزهر ولقائه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب ولفيف من علماء الأزهر الشريف فهي بألف معنى حيث أن الأزهر الشريف يحارب الأفكار الإخوانية وتنظيماتها المتشددة التي تتلحف برداء الإسلام ويسعى لترسيخ الفكر المعتدل ومكافحة التطرف، والحفاظ على الهوية العربية والإسلامية. والإخوان "يركبهم مائة عفريت" من الشيخ الطيب المعروف بسماحته وترسيخه للمنهج المستنير للدين الحنيف ومكانة الأزهر الوسطية باعتباره إحدى المرجعيات الرئيسية لدى مسلمي العالم . وقد استحضر الرئيس التونسي في هذه الجلسة مع علماء الأزهر محطّات بارزة في العلاقات الثنائية حيث استقبل الأزهر وفي رواق المغاربة على مدار تاريخه علماء تونسيين بارزين، أشهرهم ابن خلدون الذي عمل بعد ذلك مدرسًا بالجامع الأزهر، وكذلك الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، الشيخ الواحد والأربعون للأزهر الشريف، حيث تولى مشيخة الأزهر في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.
اقرأ أيضًا..ألفة السلامي تكتب: ضياع الفرصة الأخيرة!
وليس غريبا أن يعتلي منبر الأزهر "تونسي" مثل القاضي الفقيه محمد الخضر حسين الذي أصّل لمفهوم الحرية في الإسلام في كتاب بنفس العنوان. إن التعاون المصري التونسي بثقل دولتين لهما حضارات راسخة في التاريخ وأدوار لها إشعاع على المحيطين العربي والإفريقي إضافة لما يميز كل منهما بموارده البشرية عالية القيمة والحضور الإقليمي والدولي يمكن أن يعد بالمزيد من الاستقرار والتنمية والسلام في المستقبل القريب.