ثورات الخبز في التاريخ.. الخط الأحمر الذي وضعته الشعوب لحكامها.. لبنان يعاني ومصر قادت المسيرة قبل الميلاد

إنّا نحبّ الورد،  لكنّا نحبّ القمح أكثر  و نحبّ عطر الورد،  لكن السنابل منه أطهر  فاحموا سنابلكم من الأعصار  بالصدر المسمّر 

- عن الصمود، محمود درويش

يمتلك أداة سحرية شبيهة تمتلم قدرات الشيطان في غواية الإنسان.. رغم جماده إلا أنه قادر على تحريك كل شيء حتى الشعوب؛ تتقادم وتتساقط الحكومات بسببه، تُقاس رفاهية الشعوب بسبب تفاوت سعره، قد يبيع الأشخاص شرفهم من أجله، وقد تبيع الدول مبادئها من أجله.. وقد يموت الشرفاء من أجله أيضًا!

 

الخُبز هو ثالث ضروريات البقاء البشري بعد الهواء والماء، في رمزية مجازية إلى الغذاء الذي يساعد الإنسان على البقاء.. تلخص في شعارات الثورات بل استبق الحرية والكرامة وأصبحت: "عيش.. كرامة.. حرية".. ما يُثبت حتمية احتياج الخبز لجميع الشعوب.

الخبز هو شعرة معاوية بين الشعوب والأنظمة.. ففي تواريخ الشعوب، تردد مرارا وتكرارا أنه لا كرامة لإنسان جائع، ولا حرية لشخص إذا كانت الأمعاء خاوية.. وتفهمت أروقة السياسة منذ نعومة أظافرها، أنه إذا أرادت أن تكتسب شعوبها فلا مساس بالخبز.

 

الخبز هو أفيون الشعوب، ففعالية الخبز توازي فعالية الأفيون في تسكين الآلام؛ عندما يرى المواطن طبق الخبز ممتلئا في منزله تتسكن أوجاعه، والمريض عندما يتعاطى الأفيون تتسكن آلامه.

رغيف خبز في زمن السلم، أفضل من قالب حلوى في زمن الحرب. - مثل تشيكوسلوفاكياستياء عارم في شوارع لبنان

أزمة اقتصادية يمر بها لبنان، معركة طاحنة بين العملة المحلية "الليرة اللبنانية" والدولار ديكتاتور سوق صرف العملات.. الأمر الذي أجبر السلطات اللبنانية على إعلان رفع سعر الخبز.

الأزمة تتلخص في أنها الزيادة الثالثة لـ سعر الخبز في لبنان، والتي كان أولها في النصف الثاني من 2020 وتحديدًا مطلع شهر يونيو.. حتى أصبح مجموع الزيادات أكثر من الضعف في أقل من عام واحد.

ولك أن تتخيل أن الـ 3000 آلاف ليرة هو تسعيرة كيس الخبز (960 جراما) يساوي دولارين أمريكي، حيث إن الدولار ثابتًا  عند 1507 ليرة، ولكن في السوق السوداء كانت الكارثة حيث إن سعر الديكتاتور الأخضر وصل إلى 15 ألف ليرة، قبل أن ينخفض إلى حوالى 11 ألف ليرة.

 

الأمم المتحدة أعلنت أن نصف سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر، كما أرجعت السلطات اللبنانية أسباب تدهور العملة المحلية إلى تأخر تشكيل الحكومة الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الأولية التي تدخل في إنتاج الخبز.. فهل لبنان على أعتاب ثورة الخبز؟

بداية المعاناة شرعت في أكتوبر 2019، كاحتجاجات رافضة للسياسات الحكومية التي أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية، وتبادل التهم والادعاءات بين المسؤولين السياسيين.موقع تحيا مصر يستعرض أبرز انتفاضات الخبز التي غيرت مجرى التاريخ:

عض قلبي ولا تعض رغيفي. - مقولة مصرية 

بدأت قبل الميلاد.. ثورات الجياع في مصر

الأرض لمن يزرعها، والحرفة لمن احترفها.. شعار رفعه قدماء المصريين لمدة 7 سنوات.. المصريون أول من ثاروا من أجل الخبز (العيش) ففي العصر الفرعوني، وتحديدًا 2281 ق. م، ووفق بردية "إيبوير" الموجودة في المتحف الوطني الهولندي للآثار، تثبت أن أول ثورة كانت ضد الملك بيبي الثاني وهو الملك الذي حكم مصر 96 عامًا وهي الأطول في تاريخ الحكام. 

وتجددت الثورة في عهد رمسيس الثالث بعد ارتفاع الأسعار نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية، ثم استمر حمل شعلة الثورة في الدولة الإخشيدية والخلافة الفاطمية والدولة العثمانية في مصر، إلى أن وصلت إلى السبعينيات في عهد الرئيس الشهيد الراحل محمد أنور السادات.

انتفاضة الخبز التي خرج المصريون فيها إلى الشارع في عام 1977 ضد قرارات الرئيس الراحل محمد أنور السادات والتي أجبرت السادات في التراجع عن قراره.

حتى وصلت في 25 يناير إلى الخروج ضد الرئيس الراحل محمد حسني مبارك في 2011 بشعار "عيش.. حرية.. كرامة اجتماعية".

فلقد كان الرغيف برزخ العبور من مرحلة الهمجية إلى مرحلة الحضارة

- فراس السواح، مفكر سوري

 

فتنة الخبز في دمشق.. قطع الأيدي والأرجل عقوبة المساكين

في عقود فائتة من عمر المدينة العريقة دمشق، تحديدًا في عهد الأمير أرجون شاه، ومن كتاب "تحفة النظار في غرائب الأمطار" يقول ابن بطوطة: "قل الخبز وزاد الغلاء، حتى أن أحد كبار دمشق أوصى قبل مماته أن يوزع الخبز على الفقراء في دمشق. وكان الخبز يفرق عليهم كل يوم بعد العصر، فتزاحموا واختطفوا الخبز، ومدوا أيديهم إلى خبز الخبازين. 

بلغ الخبر مسامع الأمير أرجون شاه، فنصب الفخ للمساكين، وكان رجاله كلما لقوا مسكيناً، قالوا له تعال وخذ الخبز. فاجتمع منهم عدد كبير، فحبسهم أرجون شاه وأحضرهم تحت القلعة، وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم.

والآن، سوريا مازالت تعاني ويلات ثورتها، ففي بداية 2021 ثار الشعب السوري في احتجاجات شعبية رافضة الواقع الاقتصادي تحت شعار "خيرات بلادي لولادي".. وطال الغضب مواقع التواصل الاجتماعي فخرج السوريون بهاشتاجات "ثورة جياع" و"بدنا نعيش"، في تنديد واضح وصريح لسوء الأحوال الاقتصادية نتيجة انهيار الليرة السورية أمام الديكتاتور الأخضر "الدولار".

وبالعودة إلى قبل الثورة السورية، عندما ضربت موجات الجفاف سوريا ما بين عامي 2006 - 2008، الأمر الذي جعل المزارعين تترك حقولههم وبداية تكشير الشعب السوري عن أنيابه.

إذا رماك احدهم بحجر، ارمه برغيف خبز. - مثل مجري

 

إن لم تجدوا الخبز فكلوا البسكويت.. عندما تُثير حساسية أنوف الفرنسيين

اشتعلت شرارة الثورة الفرنسية ضد التسلط البورجوازي، بسبب ارتفاع الأسعار وصعوبة الحصول على الطعام، إلا أن كلمة السر تلخصت في زوجية لويس السادس عشر، والتي كانت بمثابة "الدبة التي قتلت صاحبها".. إنها أنطوانيت.

فخرجت أنواطنيت تعليقا على خروج المتظاهرين بعبارات ظنت أنها ستساعد في التهدئة، قالت "إن لم تجدوا الخبز فكلوا البسكويت" أو "إن لم يكن هناك خبز للفقراء، فدعهم يأكلون الكعك"، فتضاعفت على الفور قوة الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي.

 

المجرمين والمخربين.. أحداث الخبز في تونس 1984

حجزت تونس نصيبها في ثورات الخبز.. أحداث أو انتفاضة الخبز المصطلح الذي عرفت بها خروج التونسيين في 1984 بعد زيادة سعر الخبز و رفع الدعم على عدد من السلع الأساسية.

الحبيب بورقيبة رئيس تونس وقتها، أمر بنشر القوات العسكرية بشوارع العاصمة وإعلان حالة الطوارئ ومنع كل تجمع بالطريق العام والساحات العامة.. وحملة اعتقالات لأشخاص أطلق عليهم صفة "المجرمين والمخربين"، حتى تراجعت الحكومة التونسية عن القرار وإعلان إعادة النظر في الميزانية الجديدة.

إن قطعة الخبز تبدو لنا دائما أكبر مما هي في الواقع حين نراها في يد غيرنا. -دوستويفسكي

 

أكياس الدقيق الفارغة.. ثورات متتالية في العالم العربي

الانتفاضة انتقلت من تونس إلى المغرب في نفس العام 1984، لنفس السبب، وواجهت الحكومة الاحتجاجات بالتراجع عن قرارها. عقب هدوء الشوارع المغربية، انتفض الجزائريون عام 1988 احتجاجًا على غلاء الأسعار وتردي الأوضاع الاقتصادية، إذ نزلوا إلى الميادين بأكياس دقيق فارغة بدلًا من إعلاء أعلام بلادهم.

الأزمة المالية 2008.. سعر القمح يرتفع ثلاث مرات

عام 2008 شهد 50 حالة من الاضطرابات والاحتجاجات، قاد بعضها إلى تغييرات في الأنظمة الحاكمة.. جاءت على لسان مدير مركز بون للأبحاث التنموية في ألمانيا، يواخيكم فون براون، مستطردًا أن الأزمة المالية أثرت على أجندات وسياسات الدول التي اصطدمت بركب الحضارة وأن العالم بات قرية صغيرة متشابكة ناقل لعدوى الثورات بشكل أسرع كحركة عقرب الثواني مقارنة بعقربي الدقائق والساعات.

 

"الخبز دليل على مدى تحضر المجتمعات المستقرة، ما يجعله سلعة إستراتيجية ومقياس حساس للمؤشرات الاقتصادية، سواء في حالات الانتعاش أم الانهيار".. جملة مقتبسة من كتاب "الخبز في مصر العثمانية" لصاحبه جمال كمال محمود.. فأثبت الخبز بالدليل القاطع أنه الخط الأحمر الوحيد الذي وضعته الشعوب لحكامها وغير القابل للتنازل عنه مهما وصلت الظروف في الدولة.