عاجل
الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألفة السلامي تكتب: ثلاث دروس من سيرة نوال السعداوي

الفة السلامي- ارشيفية
الفة السلامي- ارشيفية

بعيدًا عن الجدل الذي تثيره سيرة الراحلة نوال السعداوي حول الأيديولوجيا التي تتبناها وقناعاتها، مقالي اليوم يتوقف فقط عند ثلاث دروس استفدتها شخصيا من هذه الشخصية وكتاباتها و حواراتي معها.

الدرس الأول هو أن العقل أهم قيمة لدى الإنسان، وهو مقدّس، ولا ثوابت أمام العقل.. فالعقل لابد أن يناقش كل الثوابت ويُخضعها للتفكير والمراجعة والتمحيص، ولا خاب من أعمل عقله.

كما أن العقل الذي لا يتمرد على الثوابت أو ما يسمّى بالمسلّمات الاجتماعية لا يستطيع أن يبدع، والسبيل إلى الإبداع يتحقق عند إعمال العقل الذي يمكّن من رؤية التناقضات.

وهذا أيضا محور الفلسفة والعلوم الإنسانية عامّة التي علمتنا أن "الإنسان حيوان عاقل". والحقيقة أن الوعي المتحقق من يقظة العقل لا يخيف، كما أن المعرفة لا "تخض"، لكن الجهل هو ما يخيف بتبعاته الخطيرة وثقله المكلّف اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.

الدرس الثاني هو طريق السعادة الذي يُبنى من خلال التحقّق.. فالإنسان المتحقق يتمتع بسعادة فائقة القيمة لا تخطئها الأعين،

ونوال السعداوي عاشت وماتت وهي سعيدة لأنها متحقّقة؛ فهي مبتسمة واثقة مطمئنة حازمة وجسورة. وهذه السعادة متأتية من كونها لا تفعل شيئا بدافع الخوف أو الاضطرار أو مجاراة المجتمع.

هي نموذج للشخصية التي تقول وتكتب ما تؤمن به حتى لو اصطدمت بنمط الأفكار السائدة. وهكذا كانت كافة اختياراتها في حياتها متوافقة مع قناعاتها.

وهنا يكمن جوهر السعادة متى استطاع الإنسان إليها سبيلا! الدرس الثالث يتعلق بموضوع الجنس، وهو موضوع خطير لأنه من المحرمات ولا حديث عنه داخل الأسرة أو في المدرسة، بل حتى كليات الطب لا تشرح للطلبة هذه العلوم التي لا غنى عنها لتكوين الإنسان قبل الطبيب.

وقد تناول كتاب المرأة والجنس هذه المعرفة التي ساعدت أجيالا في العالم العربي على فهم أجسادها. وقد كان الشباب يتداولونه وهو مغلف حتى لا يظهر عنوانه الذي يصطدم بـ "التابوهات" الممنوعة. وقد تمت مصادرته وبسببه أيضا فصلتها وزارة الصحة من عملها.

وقد تضمّن معلومات فسيولوجية وتشريحية في منتهى الأهمية حول غشاء البكارة وكيف أن أكثر من ربع البنات يولدن بدونه ولا ينزفن ليلة الزفاف، والباقي يولدن بأغشية متفاوتة السمك وبعضها سميك جدا لدرجة يحتاج إلى تدخل جراحي لنزعه.

وكم من الفتيات كنّ ضحية الجهل بهذه المعلومات وتم الشك في أخلاقهن بل وقتلتهن عائلاتهن لأنهن لم ينزفن ليلة الزفاف مع أنهن لم يمارسن الجنس إطلاقا قبل الزواج! ومن هنا يمكن التطرق لموضوع الشرف والأخلاق حيث يحصرها المجتمع في جانب بيولوجي، في حين أن مفهوم الأخلاق منظومة متكاملة تشمل السلوك اليوميّ في الحياة والصدق في المعاملات والضمير اليقظ في العمل والوفاء بالوعد، والالتزام تجاه العلاقة التي تربط بين الشريكين في الزواج بحيث تكون حياة واحدة وليست حياة في العلن وأخرى في السرّ.. والزواج بواحدة رسميا وأخريات ما بين عرفي ونزوات تعكس الفساد الأخلاقي و"قلة الشرف"! وكم من الرجال لهم في العلن زوجة محترمة عفيفة مخلصة صالحة، ولهم في السرّ عشيقة/عشيقات خليعة عارية فاسدة تلبي لهم نزواتهم! إذن هذا المفهوم الخاطئ للأخلاق والشرف قاومته "السعداوي" وعرّت تلك الازدواجية العجيبة المتوارثة التي يعيشها المجتمع دون واعز أخلاقي أو ديني.

وكشفت بشجاعة هذه الحقائق التي لا ترضي المجتمع الذكوري، مؤكدة أن عقل المرأة هو شرفها، وهو سلاحها الذكي الذي تستعيد به ثقتها بنفسها بعد أن فقدتها في طفولتها بسبب المجتمع.

شاهدت نوال السعداوي عن قرب في زياراتي لها بعد أن قرأت كتبها وحاورتها عدة مرات في شقتها بشارع القصر العيني وفي جمعية تضامن المرأة العربية، ثم في شقتها بمنطقة أغاخان بشبرا.

وكانت مثالا للاستقامة في رأيي لا تعرف الكذب ولا الغش، كما أن ما يشاع عنها من تشجيعها على الحرية الجنسية وتعدد العلاقات هو محض افتراء وتشويه السمعة، وحياتها العاطفية شاهدة على ذلك؛ فقد تزوّجت وطلّقت ثلاث مرات والتقيت بأحد أزواجها -الدكتور شريف حتاتة- عندما أجريت معهما حوارا حول نفس القضايا ليتضح لي أن العقل والحوار والاختلاف في الرأي يمكن أن تتعايش تحت سقف واحد.

وذكرت لي في آخر زيارة عام 2015 أن الطلاق اختيارها عندما تجد نفسها محصورة في دور الزوجة حيث ينسى أزواجها أنها طبيبة ومفكرة. وهي ليست ضد الزواج كما يشاع بل تضع له شروطا منها احترام كرامة المرأة والمساواة كاملة في الحقوق والواجبات مع شريكها.

هكذا عاشت نوال السعداوي متسقة مع نفسها تُظهر ما تكمن، بسيطة في هيئتها بدون تكلف أو بهرجة أو "تسليع"، أحبت نفسها وعقلها وناضلت من أجل تغيير الإنسان بفضل اكتسابه القدرة على إعمال العقل والتفكير النقدي حتى يكون حرا و يستطيع الاختيار الأفضل.

اقرأ أيضًا..ألفة السلامي تكتب: "ابن أمه" ومسلسل العنصرية في قصر باكنجهام

وقد أخلصت لمبادئها ولم تفرط في وطنها أو تبع قضيتها في وقت كان التمويل الأجنبي السخيّ يبحث عن أمثالها من الناشطات النسويّات.. حتى عندما تعرضت للسجن والتهديد بالقتل من الجماعات الإرهابية ظلت على مبدئها ولم تخف ورفضت التدخل الأجنبي في قضيتها. وأختم بقصة روتها لي حيث جاءها شاب مع عروسه الجديدة، وقال إنه يريد أن يشكرها ويقدم لها زوجته. وأضاف: "جعلتنِي كُتبك رجلا أفضل". وهذا ما كانت نوال السعداوي تطمح إليه طوال حياتها .. تغيير الأفكار والسلوك بحيث يصبح الإنسان صالحا لنفسه ولمجتمعه!

تابع موقع تحيا مصر علي