عاجل
الأربعاء 27 نوفمبر 2024 الموافق 25 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألفة السلامي تكتب: تجربة ملهمة مع طفل غير عادي!

تحيا مصر

هل جربت من قبل التعامل مع أشخاص لديهم نوع من أنواع الإعاقة؟ هل جربت أن تمشي في مركز تجاري وسط الناس مع طفل مصاب بإعاقات متعددة؟
هي تجربة استثنائية علمتني الكثير و كانت بمثابة الزيارة القصيرة إلى عالم ذوي الإعاقة أرويها بمناسبة يوم المعاق العالمي الذي حددته الأمم المتحدة في الثالث من شهر ديسمبر من كل عام. وهو يوم على قدر أهميته لأصحاب الإعاقة أنفسهم ونضالاتهم الشاقة إلا أنه يوم يخصّ الأصحّاء أيضاً، للتفكير ولو قليلاً بالمعاق ومحاولة الفهم والمساعدة كلّ حسب إمكانيّاته وطاقته. ولعل الأرقام تحيلنا على واقع أقرب إلى الكابوس يعاني منه حوالي مليار شخص، أي 15% من سكان العالم تقريبًا، يحاولون التعايش مع إعاقات متنوعة تحدّ من إمكانياتهم في المشاركة بالحياة العائلية والمجتمعية والسياسية، ومن بينهم 93 مليون طفل، بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية. وفي مصر، يشكل ذوي الإعاقة نحو 10.67% من إجمالي عدد السكان. قد يكون ما تحقق لذوي الإعاقة من مكاسب كثيرة في وقت قصير أمر يبعث على الأمل في غد أفضل يتمتعون فيه بكل حقوق المواطنة، لكن الأفكار التي تعشش في العقول وتنظر إليهم بدونية مازالت تسجنهم في أقفاص العقاب. وتلك قضية بعيدة كل البعد عن المكاسب والقوانين العادلة والمنصفة التي ترفع عنهم ظلما طويلا مايزال يصاحبهم مادامت العقول لم تتغير بعدُ.
كانت الجولة مع طفل يتلمس طريقه بمشقة نحو مرحلة الصبا، تخفَف تلك الابتسامة التي تملأ روحه و تعلو محياه من التعسَر في الحركة والكلام والسمع فيبدو كالجندي الشجاع، مقداما لا يهاب المعارك أو ربما لم يجرب بعد التهديدات المحتملة للحياة. تبحث تلك الابتسامة الصافية عن الجميع ربما تعثر على صديق بينهم. يحيَي كل شخص جديد كما لو كان سعيدًا حقًا بمقابلته أو كما لو كانت لحظة بهيجة مشتركة يتقاسمها بحنو مع إنسان آخر.
يستخدم كرسيًا متحركًا وذلك بعد تعرضه لحادث سيارة مع والديه خرج منه بأضرار مضاعفة. ومن الصعب أن يكون الشخص مصابًا بنوع من الإعاقة فكيف الحال عندما يكون مصابا بإعاقات متعددة تمنعه من الحركة وتحد من قدرته على الكلام والسمع فلا يجد أحدا يفهمه! ينظر الناس إليه ويفترضون أنه غبي أو متخلف عقليا لأنه لا يستطيع التحدث أو التصرف مثلهم أو كما تعودوا بل هو مختلف عنهم. أظن أن الناس يخافون من الأشياء التي تبدو مختلفة عنهم. وعلى الرغم من ضخامة عدد ذوي الإعاقة الحركية حيث هناك وفقا لمنظمة الصحة العالمية 75 مليون شخص في العالم يستخدمون الكرسي المتحرك يوميًا، أي ما يعادل 1% من سكان العالم، إلا أن تلك الإعاقة تتحول إلى مأساة حقيقية عندما يواجه صاحبها يوميا أماكن غير مجهزة للتعامل مع هذه الاحتياجات الخاصة بما في ذلك المدارس ووسائل الانتقال وأماكن التسوق بل وحتى العمارات والمساكن.
لم يتوقع يوما أن هذا سيحدث له ولكن تغيرت حياته تماما بسبب الحادث. وجد أنّ هناك سلما في المبنى، وأن الدرج عالي للغاية ولا يمكّنه من الصعود، وأنه وأسرته يفكرون مرة وألفا عندما يرغبون في الخروج. على الرغم من هذه المواقف، لم يفكّر أبدًا في الانزواء أو التوقف عن الخروج والتواصل مع العالم ولا يتردد في طلب المساعدة عندما يتعذر عليه التصرف بمفرده.
عند رؤية ابتسامته الساطعة مثل الشمس وسعادته بلقاء كل إنسان يقابله بحماسته الطفولية، يبتسم معظم الناس دون أن يتبين حقيقة معنى ابتسامتهم. لكنهم سرعان ما يبتعدون عنه، وقليلون أولئك الذين يشعرون عند رؤيته بأنهم أخف وزنا وأكثر إشراقا. للحظة فقط عندما يحيلون جانبا تلك الأفكار المسبقة عن ذوي الإعاقة، يمكن أن يستمتعوا بتلك الشرارة الدافئة من الاتصال الحقيقي مع قلب مليء بالمحبة والإقبال على عالم رحب. هذا تذكير بما يستحق الحياة ومفعم بالأمل في عالم تغلب عليه القسوة.
ويستمر صديقي الطفل في تجربة التواصل مع الناس بكل عفوية حتى تشعر والدته بالحرج من ابتعاد الناس ونظراتهم ما بين التنمر والتعاطف، فتسكته وتنهره مع تحذيره من خطورة التحدث إلى الغرباء. فيستجيب وهو أكثر ذكاءً ووعياً بعد ذلك، لكنه ليس هو نفسه تمامًا؛ يخبو بريق ذلك الإشعاع الذي كان يبثه فيمن حوله ولا يمتلك مرة أخرى هذا السحر نفسه للإنسان المنفتح والواثق حقا.

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: سقطة محمد رمضان

ولكن ها هي المعضلة الحقيقية: ليس لدى الطفل المعاق سببا وجيها لاحتضان العالم بوفرة، بسبب تأخر جسمه في النمو جراء الحادث، فهو إذن مختلف. ولا يبدي الناس دائمًا لطفا تجاهه، واحتوت طفولته على الكثير من الرفض والتنمر والإساءة. ولديه كل الأسباب لعدم الثقة في البشر والتحول إلى الداخل. وهو مع ذلك، خارج في نزهته، مستعد لتكوين صديقه الجديد التالي. يقدم نفس التحية، وبنفس الحماس الذي لا ينقطع لكل شخص يقابله. البعض يتجاهله وينظر بعيدا لتفادي أي احتكاك به. وتلك أم تصحب طفلها و تبتسم بشكل غير مريح، ثم تنطلق بسرعة تدفع عربة طفلها في الاتجاه المعاكس. ويبتسم البعض الآخر بحرارة، ويبادلونه التحية ويوافقون على تبادل بعض الكلمات. وإذا انخرط الناس، فإن صديقي الطفل يستشعر الراحة والأمان ويبدأ في المحادثة ويسترجع ثقته وشجاعته.
لماذا أسرد هذه القصة.. لأن الفترة التي قضيتها مع صديقتي وابنها المعاق في جولة قصيرة تبدو عادية بإحدى المراكز التجارية كانت حقيقة غير عادية بفضل ما تعلمته من دروس كثيرة: نحن غير متسامحين ونصدر الأحكام عندما يملأ الناس أدمغتنا بأفكارهم المسبقة التي تخيفنا من سلوك ذوي الإعاقة. هناك كم من الإحراج يصيب الشخص المعاق وأسرته التي تصاحبه ويسبب كما هائلا من العاطفة الضائعة.. ويضيع الكثير من الطاقة العقلية في الاهتمام بما يعتقده الآخرون الغرباء. بينما إذا تخلصنا من تلك الأفكار المسبقة الخاطئة، يمكننا أن نجد أقوى الأرواح البشرية وأكثرها إلهامًا في الأشخاص الذين نرفضهم بسهولة.
شكرا لك صديقي الطفل على تعليمي هذه المعاني. فعلا أفخر أن إنسانا غير عادي أعطاني دورة مكثفة في الإنسانية؛ فقد تعرفت على ما بداخله فوجدت شخصًا ذكيًا وعاطفيًا لم ألتقِ به من قبل. وألهمني هذا الزخم من المشاعر وفتح أمام عيني طريقة جديدة تمامًا للنظر إلى هذه الفئة من ذوي الإعاقة. وإذا كان بإمكاني إخبار الناس شيئا واحدا عن ذوي الإعاقة فإنهم أشخاص لا يريدون أن يكونوا على هذا النحو وقد فرضت عليهم ظروفهم أن يعيشوا ويتصرفوا بطريقة مختلفة. لذلك، لا يمكن أن نطالبهم بأن يكونوا متفهمين لنا، بل على العكس من ذلك يجب أن نكون متفهمين لهم ونمنحهم بعضا مما منحه الله لنا من صحة وسلامة وأمان.
الحاضر ليس له معنى إلا في ضوء الأمل في المستقبل، والمستقبل يمنحنا الأمل فقط إذا كنا سنصبح أفضل مما نحن عليه الآن. وخارج سياق المستقبل الرائع المبشر بالتغيير الإيجابي، تبدو المظالم الحالية لذوي الإعاقة والأحزان والمعاناة المحيطة بهم وبعائلاتهم ساحقة ماحقة!
[email protected]
تابع موقع تحيا مصر علي