ألفة السلامي تكتب عن فيلم هز العالم .. الوجه القبيح للرأسمالية!
ADVERTISEMENT
جلست أمام الشاشة لمشاهدة الفيلم الوثائقي الجديد المعضلة الاجتماعية (أو المأزق الاجتماعي) الذي تعرضه قناة "نتفليكس" - و الذي تحول لـ "ترند" مؤخرا ضمن الأفلام الأكثر مشاهدة- وكلي فضول للتعرف على أسرار يكشفها صناع "السوشيال ميديا" عن كيفية تحويلنا إلى مدمنين لشبكات التواصل الاجتماعي والتداعيات الخطيرة لهذه المؤامرة.
الفيلم عبارة عن صرخة تحذير تأتي من قلب العالم الغربي على لسان صناع فيسبوك وانستجرام وتويتر الذي يفسرون كيف يستخدمون التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وعلم النفس التطبيقي لجعل تلك المواقع والمنصات بمثابة المخدرات للمستخدمين! الفيلم مدته ساعة ونصف، من إخراج جيف أورلوفسكي الذي سبق أن أعلن عن نفسه وتمرده على السياسات المدمرة للبشرية بفيلمين عن قضية الساعة وهي تغير المناخ: "مطاردة الجليد" و "مطاردة المرجان". واستعان بثلاثي من الكتاب المهرة في فيلمه الجديد المعضلة الاجتماعية وهم ديفيس كومب، فيكي كيرتس، وجيف أورلوفسكيو.
منذ البداية، يتبلور هدف الفيلم بشكل مثير للإعجاب في تقديم وصف مقنع وأدلة قوية على كيفية التلاعب بالسلوك البشري من أجل الربح من خلال استخدام الشركات لوسائل التواصل الاجتماعي لترميز أنشطة المستخدمين بدقة "ميكيافيلية" وتوظيف تلك البيانات ليس فقط للتنبؤ بأفعالنا ولكن أيضًا للتأثير عليها، مما يحول المستخدمين إلى فريسة سهلة للمعلنين والمروجين.
بالنسبة لي ولغيري الذين يحاولون طيلة سنوات دق نواقيس الخطر وإثارة قلق الجمهور حول ما يجري في مجال التكنولوجيا – لكن دون نجاح يُذكر- من الرائع مشاهدة كيف يقوم مخرج موهوب بهذه المهمة وشرح الضرر الناجم عن منصات الشبكات الاجتماعية لتحريك المياه الراكدة في هذه القضية.
ويعتمد أورلوفسكي مسارين متشابكين للفيلم. المسار الأول يتمثل في تجميع نخبة من المهندسين والمديرين التنفيذيين الذين صنعوا وسائل الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي ولكنهم "تابوا" الآن وأصبحوا يخافون من آثار إبداعاتهم على الصحة العقلية للمستخدمين وتدمير وحدة الأسرة وأسس الديمقراطية الغربية. لذلك يتحدثون بصراحة عن الأضرار التي لحقت بالمجتمع - دون قصد منهم- وشرح بعض التفاصيل عن انحرافاتهم السابقة لتكون شهاداتهم التحذيرية بمثابة عودة الابن الضال للتكفير عن الذنب الذي اقترفه!
إنهم كما لو كانوا أخذوا الناس على متن رحلة بحرية وتركوهم يصارعون العواصف والأمواج العاتية. وغرق الناس في بحر الإدمان لشبكات التواصل الاجتماعي و حيرتهم تحرقهم إزاء انتهاك خصوصيتهم بلا منقذ بينما انشق هؤلاء المديرون عن هذه الشركات و استعادوا ضميرهم الذي استيقظ فجأة من أجل الدفاع عن الأخلاق وخصوصية المستخدمين. ويرحب المخرج أورلوسكي بعودة الوعي لهؤلاء المهندسين والتقنيين لأنهم يناسبون هدف الفيلم المتمثل في تقديم الشرح للمشاهدين عن الممارسات الفظيعة التي تتبعها الشركات الرأسمالية لمراقبة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ويكشف حينئذ الوجه القبيح للرأسمالية.
لكن المشكلة التي قد يواجهها المشاهدون عندما يصلون إلى النقطة التي يحتاجون فيها إلى أفكار حول كيفية التراجع عن هذا الضرر الفادح وهذا الإدمان المخيف نتيجة تلاعب الشركات بالمستخدمين يتضح في النهاية أن شهادات المهندسين والفنيين لا تقدم حلولا متماسكة قادرة على درء تلك الأضرار التي ابتدعوها و ورطوا العالم فيها .
ولابد ونحن نشاهد الفيلم أن يستوقفنا هؤلاء المديرون التنفيذيون والتقنيون حيث يتشابهون في الشريحة العمرية والذكاء والمهارات الفائقة كما يبدو أنهم قد مروا بنفس التجارب مع ما يمكن وصفه بـ "التكنولوجيا الضالة" التي فقدوا خلالها الدوافع الأخلاقية ثم عودة الوعي إليهم عند اكتشافهم أن أرباب العمل الذين كانوا يعملون تحت رئاستهم هم بمثابة الأفاعي التي تنشر سمومها؛ كما يقررون إعادة اكتشاف أنفسهم من جديد ليقوموا بدور الخبراء لكن في ترويض عمالقة التكنولوجيا هذه المرة!
يقول تريستان هاريس، خبير أخلاقيات التصميم السابق في شركة "جوجل" ورئيس مركز التكنولوجيا الإنسانية الذي يسعى لإعادة مواءمة التكنولوجيا مع القيم الإنسانية، إنه لم يحدث من قبل في التاريخ أن اتخذ 50 مصممًا قرارات لها تداعيات على ملياري شخص! وتوضح آنا ليمبك، خبيرة الإدمان في جامعة ستانفورد، أن هذه الشركات تستغل حاجة الدماغ المتطورة للتواصل بين الأشخاص.
أما المسار الثاني لحبكة الفيلم الوثائقي فهو سرد خيالي لقصة عائلة أمريكية طبيعية تمامًا يتم التلاعب بابنها وابنتها وإفسادهما بسبب إدمانهما على وسائل التواصل الاجتماعي. ونتابع معاناة هذه العائلة من عواقب إدمان تلك الشبكات. ويأتي التعليق من المحاورين حول زيادة الأمراض العقلية والنفسية بسبب الاستخدام السيئ. كما يتم الاستشهاد بالاستقطاب الأيديولوجي وأعمال الشغب والاحتجاجات كأعراض لهذه التبعية لمواقع التواصل الاجتماعي.. وإن كان الفيلم يغفل عن ذكر زيادة انعدام الأمن الاقتصادي في تفسيره لتلك الاحتجاجات. وهذه هي طريقة أورلوفسكي في إقناع المشاهدين غير البارعين بالتكنولوجيا بمدى الضرر الحقيقي والملموس الذي يلحق بأبنائهم المراهقين.
اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: جريمة التسرب من التعليم!
وهذا المسار المتمثل في قصة العائلة ومعاناتها يبدو ضروريا في الفيلم لأنه يقدم الأدلة والبراهين على كيفية تعامل هذه الصناعة مع المستخدمين على أنهم فئران تجارب وشرح ما يحدث للفئران من أمراض عندما يتم تحويلهم إلى مستويات أعلى من الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي. ونستنتج من بعض الشهادات في الفيلم كيف تسخر هذه الصناعة علم النفس التطبيقي لاستغلال نقاط الضعف البشرية لإنتاج تنبؤات قابلة للتسويق حول ماذا سيفعل المستخدم/المستهلك وماذا سيقرأ أو يشتري أو كيف يفكر. والمقصود هنا بعلم النفس التطبيقي هو العلم الذي يهتم بالدراسة العملية للسلوك الإنساني ويعمل على تطبيق نظريات علم النفس على أي موضوع من موضوعات السلوك الإنساني ونشاطاته المختلفة ومن أهم مجالات علم النفس التطبيقي علم النفس الصناعي. وقد أطلقت الباحثة شوشانا زوبوف في شهادتها على هذا النشاط مصطلح "رأسمالية المراقبة" الذي حاول الفيلم أن يشير إلى أنها نسخة "متحولة" من النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يعتمد عليه نموذج الأعمال الخاص بوسائل التواصل الاجتماعي.
والحقيقة أن هذه النسخة من النظام الرأسمالي تعتمد على علم النفس التطبيقي لإيجاد الموارد الجديدة واستغلالها لتحقيق أعلى ربح ممكن منها بعد تفطن إدارة العالم الرأسمالي إلى نهب معظم موارد العالم الطبيعية التي أوشكت على النضوب فتحولت إلى استخراج واستغلال ما بداخل رؤوس البشرية وعقولهم. والسؤال المحوري الذي يسعى الفيلم إلى التذكير به والتنبيه إليه وهو: لماذا نستمر في السماح لها بالقيام بذلك؟!
على الرغم من انتقاداتهم الشديدة، فإن الأشخاص الذين تمت مقابلتهم في "المعضلة الاجتماعية" ليسوا كلهم متشائمين. ويقترح بعضهم إجراء تغييرات على طرق استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للحفاظ على مستوى عالي من الخصوصية وإنقاذ المستخدمين من الإدمان والاستغلال. لكن حقيبة الحلول المقترحة لم توضح كيف يمكن إدخال تغييرات على التكنولوجيا التي تسبب السلوكيات المدمرة في ظل الرأسمالية السائدة غير المنضبطة التي تنتجها.
اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب عن أحلام الشباب: الوظيفة.. مندوب مبيعات!
ومع ذلك، فإن الفيلم محاولة لدق ناقوس الخطر بشأن توغل التنقيب وجمع بيانات المستخدمين والتلاعب بالتكنولوجيا الضالة لاستغلالها من أجل تحقيق أرباح للشركات في نقد واضح للوجه القبيح للرأسمالية التي كل همها زيادة مكاسبها حتى لو كانت على حساب الإنسان وسلامته وصحته ومستقبله.
[email protected]