ألفة السلامي تكتب: جريمة التسرب من التعليم!
ADVERTISEMENT
قصة حزينة مازالت تفاصيلها تحرك مواجعي وتدفعني لكتابة مقال اليوم بطلتها طفلة صغيرة متقدة الذكاء، وجهها لوحة فرح وعيناها قوس قزح مع لمحة حزن توقف انطلاقتها العفوية.. باختصار لا تكفي مفردات كل القواميس لأكتبها كما تستحق. جاءت بها أمها للعمل لدى أسرة متزوجة حديثا ولم تعبأ هذه الأم بأنها تقص أجنحة طفولتها وتسرق براءتها. تعللت بأنها ستساعد "بقرشين" والدها المريض. أما الطفلة ذات العشر سنوات فقد تعلمت مبكرا صنعة الكبار في التحايل لاختيار كلمات تُبدي بها الطاعة وتتفادى بها غضب الآخرين وقالت إن أمها ستسجلها في المدرسة وتجلب لها الكتب و تأخذها وقت الامتحان!
فكرت كثيرا في هذه الجريمة التي يرتكبها بعض الآباء والأمهات في حق أطفالهم.. وهل مازلنا نحتاج إلى تغليظ العقوبة في قانون الطفل وقانون التعليم على أولياء الأمور في حال انقطاع الطفل عن المدرسة أو تركه أميًا دون إلحاقه بفصول التعليم؟
ورغم أن قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981 يعاقب والد الطفل أو المتولي أمره إذا تخلف التلميذ أو انقطع عن المواظبة على الحضور إلى المدرسة في مرحلة التعليم الأساسي التي تمتد من العام السادس للطفل إلى العام الخامس عشر من عمره، وجعلتها مرحلة إلزامية، لكن للأسف لم يعرف هذا القانون طريقه إلى التطبيق الكامل.
والحقيقة إن غياب و فقد دور المدرسة في حياة الطفل من خلال التسرب من التعليم في هذه المرحلة من أخطر المشكلات التي تواجه التعليم في مصر، وتنعكس آثارها السيئة على الطفل وأسرته والمجتمع، بداية من زيادة نسبة الأمية ومرورًا بمشاكل ارتفاع نسبة عمالة الأطفال في السن المبكر وزيادة نسبة الانحراف السلوكي، وصولا إلى ضعف المساهمة في التنمية. ومن المعروف أن المدرسة هي الملاذ الآمن عندما يواجه الأطفال الإساءة والفقر. وعندما يكونون في المدرسة يقل احتمال إجبار البنات على الزواج المبكر والاعتداء الجنسي وعمالة الأطفال.
اقرأ أيضًا.. ألفـة الســلامي تكتب: شكل العالم بعد جائحة كورونا
وفي الفترة الأخيرة بعد جائحة كورونا، استمعت إلى العديد من الأصوات لممثلين من المجتمع المدني وقيادات دينية وبرلمانية يعبرون عن مخاوفهم من أن تتسبب أزمة كورونا في توقف العديد من الأطفال عن التعلم، وخاصة الفتيات، حيث اضطرت الكثيرات منهن إلى العمل في الأراضي الزراعية لمساعدة أسرهن، والعمل في المنازل وأحيانا يتعرضن للعنف والمعاملة القاسية.
وتمثل الزيادة السكانية المستمرة عاملاً خطيراً من عوامل تفاقم مشكلة الأمية والتسرب من التعليم في مصر وتداعياتها على التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
وقدمت اليونسكو تعريفا للأمية بأنها "كل شخص لا يجيد القراءة والكتابة" وأضافت بعد ذلك معيار الفهم نتيجة ملاحظات المتخصصين بأن هناك من يجيد القراءة والكتابة من دون فهم. وترتفع معدلات الأمية بين الإناث بدرجة كبيرة، حيث بلغت 30.8% مقابل 21.1% للذكور وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2017. ويرجح المتخصصون أن هذه المعدلات في ارتفاع مؤخرا خاصة بعد أزمة كورونا بسبب التسرب المدرسي. وتعد المنيا من أكثر المحافظات من حيث الأمية (42%) وهي نسبة صادمة جدا، تليها بنى سويف بنسبة تقرب من 40%، فيما تنخفض الأمية في محافظات الوجه البحرى والقاهرة الكبرى.
اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: النصف الثاني من العمر
ورغم كون مصر أفضل حالا بالمقارنة بمعدلات الأمية المسجلة في العالم العربي ككل والتي تجاوزت نسبتها 60% من أصل عدد السكان 260 مليون نسمة بحسب إحصاءات الأمانة العامة للجامعة العربية، إلا أن المجتمع المصري الذي ينمو بشكل سريع ومستدام في السنوات الأخيرة يستطيع أن يحقق طفرات أكبر إذا توفر لكل أبنائه حق من الحقوق الأولية للإنسان وهو التعليم. وهذا الهدف المأمول تعززه السياسات العامة المنفذة حاليا من الحكومة في ربوع مصر سعيا منها لإيقاف عجلة الأمية المرتدة بعنف إلى الوراء منذ ثورة يناير لكن الهدف لن يرى النور إلا بزيادة وعي أولياء الأمور أيضا بأهمية تعليم الأبناء؛ فمازال بعض الآباء يرون في إنجاب الأطفال مصدرا رئيسيا لزيادة الدخل حيث يشغلونهم في سن صغيرة. ولم تختف –للأسف الشديد- ظاهرة الأب "السمسار" الذي يجمع في نهاية الشهر "الحصيلة" جراء عمل بناته الصغيرات في المنازل وأبنائه في الورش!
ولعل تعزيز مكانة المرأة ودعم مساهمتها في مسيرة التنمية بصورها كافة من شأنه أن يحد من أحد روافد الأمية في ضوء أن المرأة مازالت المسؤول الأول عن تعليم الأبناء والدافع لدفة استكمال البنات مراحل تعليمهن وخلق فرص أفضل للحياة.
ولست أبتكر جديدا عندما أذكر أن التعليم هو تنمية للثروة البشرية، واستثمار أفضل في المستقبل. وهو وقود التنمية الحقيقية والتطور بسرعة أكبر حتى أن أكثر الدول تقدما ورفاهية تتخذ من التعليم أداة رئيسية في الحراك الاجتماعي وإعادة توزيع الدخل والثروات وزيادة قوة العمل وبالتالي زيادة الإنتاج والنمو.
هذا على المستوى العام، أما على المستوى الخاص فإن العلم هو الطريق الأكمل لتقدير الفرد لذاته وسبيله لتحقيق تفوقه وإظهار مهاراته. وهنا ليس المقصود بالتعليم تخريج أطباء ومهندسين ومحاسبين وقانونيين وغيرها من التخصصات وإنما التعليم كمهمة مستدامة تتجاوز حدود التعليم النظامي ويدخل في حسابها الأنواع الأخرى التي تحيط بالمدرسة من كل جهاتها ويكون المحتوى التعليمي في المدرسة جزءا من خريطة تربوية شاملة. لذلك يراعى في تصميم المناهج البعد عن التلقين واستبداله بسياسة توليد المعرفة التي تتخذ من البيئة الخاصة للدارس وتجربته مصدرا لمعرفته كما يراعى تصميم محتوى يخلق سلوكيات وقيم جديدة تعلي قيمة العلم وتحد من تأثير العادات والتقاليد المعوّقة للتعلّم بحيث تكون تربة صالحة للأهداف الوطنية.
وقبل هذا وذاك، من الضروري أن تكون مسألة محو الأمية إلزامية وعملاً مشتركاً ومتكاملا بين وزارات وهيئات ومجتمع مدني وكذلك جزءا رئيسا في عمل المسؤولية الاجتماعية للشركات. وتوجد الكثير من الأفكار الخلاقة وذات الجدوى التي يمكن أن نستقيها من التجارب الناجحة لدى دول وشركات عندما جعلت محو الأمية لدى عمالها وموظفيها حافزا أساسيا في الترقي الوظيفي والحصول على المكافآت العينية والمالية والفوز بفرص التعيين لدى الخريجين. وقد حققت هذه التجارب إشعاعا على المحيط فأحدثت تطويرا نموذجيا للتجمعات السكنية الموجودة في جوار مقرات الشركات والمصانع.
كنت قد شاهدت بنفسي تجارب ناجحة في مصر نفذتها مؤسسة "إيه بي مولر ميرسك التنموية" التابعة لشركة قناة السويس للحاويات في محافظتين تحتضنان نشاط الشركة، بورسعيد وشمال سيناء، ومنها مدرسة في قرية "بالوظة" التابعة لمركز بئر العبد بشمال سيناء، كانت بصدد استكمال عملية بنائها وتأثيثها عندما زرت الشركة في شهر أغسطس عام 2016 بمناسبة افتتاح قناة السويس الجديدة. وهذه إحدى الشركات التي تتبنى مبادرة شعارها "تعليم أفضل من أجل مستقبل أفضل" ضمن مسؤوليتها الاجتماعية. وتتبنى شركة القلعة مبادرة مشابهة في منطقة مسطرد، وكذلك شركة أوراسكوم في محافظات الصعيد، إيمانا من تلك الشركات بالدور الذي يقع على عاتقها للمساهمة في تنمية المجتمع المحلي المحيط بها، خاصة في مجال التعليم.
والمطلوب أن تنسج شركات أخرى كثيرة على منوالها وتركز على هذا الهدف الجوهري ذي الأولوية الآن في التنمية لأنه لا يقل أهمية عن الاستثمارات التي تضخها تلك الشركات في الصناعة المصرية والخدمات وذلك حتى لا نرى مزيدا من المتسربين من التعليم وعمالة الأطفال مثل هذه الطفلة التي جاءت بها أمها للعمل في المنازل بينما مكانها الحقيقي المدرسة!