عاجل
الخميس 26 ديسمبر 2024 الموافق 25 جمادى الثانية 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألفة السلامي تكتب: معركة حول "الأستاذ" هيكل!

تحيا مصر

عادت إلى الساحة معركة حامية الوطيس بين الصحفيين حول الأستاذ محمد حسنين هيكل الصحفي الأشهر في الوطن العربي. كان هيكل أستاذا بالنسبة إلى أجيال عديدة من الصحفيين وبقدر ما كان قدوة للكثيرين كان ولا يزال مثيرا للجدل حتى بعد رحيله. لكن لم يتجرأ منذ فترة طويلة من ينزع لقب "الأستاذ" الذي احتكره هيكل ما يزيد على 70 عاما في بلاط الجلالة. 

بدأت معركة إلكترونية عندما كتب الإعلامي محمد علي خير مقدم برنامج "المصري أفندي" في صفحته على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، قائلا: "هيكل ليس الأستاذ"ّّ! وتابع موضحا أن الجدير بلقب الأستاذ في مهنة الصحافة وصناعتها هو مصطفى أمين وليس حسنين هيكل.
ويبدو أن "خير" كان من مريدي "الأستاذ هيكل" وقد استعار في شهادته عبارة "هرمنا" والتي قالها الحاج أحمد الحفناوي ليلة هروب الرئيس بن علي من تونس وذلك ليفسر قدرته على تغيير رأيه وإصدار حكمه الآن بعدما اكتسب من خبرة الأيام والتجربة ما مكنه من التخلص مما وصفه بـ "الأوهام" ليجعل بذلك "هيكل" وحقبته في هذه الدائرة الزائفة.
وعاد "خير" ليقلل من حديته تجاه الرجل موضحا أنه من الظلم أن يحمل هيكل لقب الأستاذ منفردا ويفسر ذلك بأن "صناعة الأوهام راجت في مصر لسنوات طويلة لذلك تم منح اللقب لهيكل" في حين يرى أن اللقب يستحقه قامات فذة في المهنة مثل إحسان عبد القدوس وعلي أمين، لكن الأستاذ الأكبر في رأيه هو محمد التابعي.
وعلى غير المتوقع، جاء رد الأستاذ مفيد فوزي منحازا لهيكل على رغم مواقفه المنتقدة لفترة عبد الناصر، وقد استند في شهادته إلى خبرته الطويلة ومعايشته لكبار الكتاب الصحفيين. ويكتب مفيد فوزي كما يتحدث في كلمات قليلة مختارة بعناية لكنها قوية كالطلقة: "عايشت الكل وأنا مهني أكثر من خمسين عاما - ولست ناصريا بل أوذيت في زمن ناصر- ومحمد حسنين هيكل هو الأستاذ!". 

ويعقب "خير" على الأستاذ مفيد بأنه يختلف معه ويصفه بأنه مازال متأثرا بمرحلة "هيكل" الذي يرى أنه "نال أكثر مما يستحق". ويتساءل "خير" أين مدرسة هيكل إذا كان أستاذا وأين تلاميذه موضحا أنه لا يقصد دراويشه. وأثنى أحد المتفاعلين معه على الصفحة متهما المدافعين عن الأستاذ هيكل بأنهم مازالوا يعيشون في الممنوعات أو "التابوهات" وأنهم إن خرجوا منها يموتون. ويتفق الإعلامي حامد عزالدين بدوره مع هذا الرأي. وفي نفس الاتجاه، اتهم عصام السباعي الكاتب الصحفي بجريدة الأخبار مفيد فوزي بأنه منحاز لهيكل في إطار "الحسابات" دون أن يوضح نوع أو ماهية تلك الحسابات، ويقول مترفقا: " أستاذي الجميل والفريد.. هل جاء الزمن وأصبحت تحسبها.. معقول؟!". ومن نفس مدرسة أخبار اليوم، قارن محمد صلاح الزهار الصحفي والإعلامي في قناة سكاي نيوز بين مدرسة "مصطفي بك أمين" التي صنعت مئات التلاميذ وأصبحوا أساتذة و نجوما بارزين وبين مدرسة الأستاذ هيكل الذي يرى أنه "كان هو المعلم والأستاذ والتلميذ الوحيد في مدرسته، وترك دراويش فحسب!"
وثارت ثائرة الكاتب الصحفي والإعلامي أحمد رفعت ورد بحماس على ما وصفه "خير" بالأوهام، قائلا: "عبد الناصر في رحاب ربه منذ نصف قرن كما أن هيكل بعيد عن السلطة منذ أقل من نصف قرن.. لكن أستاذيته تفرض نفسها خارج وداخل مصر. وأضاف أنه فرق كبير بين من يعرف بواطن الأحداث قبل حدوثها ويحاور اينشتاين وكل حكام وملوك العالم، وبين من يحاور راقصات مصر، معيدا للذاكرة تهمة التجسس التي سُجن بها الأستاذ مصطفى أمين أيام حكم عبد الناصر، قائلا: " أمثال مصطفى أمين لا يمكن أن يكونوا أساتذة إلا في التجسس !".
وقد أعجب التعليق الأستاذة فريدة الشوباشي المعروفة بالدفاع عن فترة عبد الناصر وهيكل فأثنت عليه، قائلة: " يسلم لسانك يا كاتبنا المحترم".
أما الكاتب الصحفي الأستاذ نبيل عمر فله رأي مختلف عن الجبهتين، قائلا إن "خير" لو كان قد تعرف على العبقري صلاح حافظ أو تابع تاريخه المهني سواء في روزاليوسف أو في آخر ساعة بعد خروجه من السجن، لربما تغير رأيه ولم يقلل من قيمة مصطفي أمين المهنية وما وصفه بـ "الفتح الجديد" حين أسس أخبار اليوم لكنه يعتقد أن لقب الأستاذ يستحيل أن يكون حكرا على واحد فقط.. إحسان عبد القدوس هو أول من أوصل جريدة أخبار اليوم إلى رقم المليون، في حين يشير إلى أن هيكل لما استلم الأهرام كان آل تقلا يطمعون فقط في بيعها بسعر لا يخسرون فيه كثيرا، فارتفع هيكل بتوزيع الأهرام أضعافا مضاعفة. كما يشير إلى أن محسن محمد له تجربة رائعة في زيادة توزيع جريدة الجمهورية، خاصة العدد الأسبوعي الصادر يوم الخميس. ويؤكد أن التابعي -قبل إحسان- هو الذي أنقذ روزاليوسف من الإفلاس حين جاءت به فاطمة اليوسف من البرلمان وكان موظفا به، مجددا التأكيد على أن الصحافة المصرية عرفت أسماء كثيرة تستحق لقب الأستاذ بجدارة حيث تتعدد فيها المواهب والكفاءات المبهرة. وإلى هذا الحد لم يذكر أحد من المعلقين - باستثنائي- إسم الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي أراه مثلا وقدوة لجيلي أفاد الصحفي في مهنته وتشكيل الرؤية لدوره ووظيفته وكنا نحفظ مقالاته ونجل مواقفه التي رسخت مسافة بين الصحفي والحاكم أو صانع السياسات وهي مسافة ضرورية تجعل كل طرف يعمل في تخصصه ودون أن تختلط الأدوار أو يتم تبادلها. وأضيف للأستاذ أحمد بهاء الدين كلا من الأستاذ أحمد رجب ومصطفى حسين وقد أسسا مدرسة تعتمد على صحافة حبة الدواء أو "البرشامة" التي تشخص الداء والدواء؛ كما أنها مدرسة سابقة لعصرها وتلائم النسق السريع في القرن الواحد والعشرين من حيث الرسائل التلغرافية التي تعبر عن المشكلة فيما قل ودل من الكلمات مع الرسومات الجذابة كما أنها ترسخ بذلك الهدف الرئيس من الصحافة وهو التعبير عن هموم ومشاغل المواطنين بطريقة متميزة ومتفردة فيها النقد و النكتة والطرافة النابعة من ثقافة وطبع وذاكرة المجتمع الثرية والممتعة. 

ولم تتوقف آراء الصحفيين تعليقا على موقف محمد علي خير من الأستاذ هيكل بل انتقلت هذه "المعركة" على صفحات أخرى سواء لأن بعض المغرضين الذين يمقتون هيكل وناصر وجدوها فرصة لتجديد موسم الشتيمة في الرجلين، أو لأن البعض الآخر ربطوا بين توقيت الهجوم على هيكل وبين الاتجاه الباحث عن مدخل لكسر الموقف الشعبي الرافض للتطبيع مع إسرائيل والذي يقوده على مستوى النخبة الناصريون وتلامذة الأستاذ هيكل وهو المعروف بـخصومته مع الرئيس السادات خاصة بسبب اتفاقية السلام مع إسرائيل التي فرقت بين الرجلين لتبدأ مواسم الجفاء إلى الأبد. وقد لاحظت على هامش معركة الزملاء الصحفيين حول هيكل مدى تأثر مثقفين وكتاب عرب بهذا الهجوم على محراب هيكل الذي كان ومازال يمثل لهم ظاهرة فريدة في الإعلام العربي بل والعالمي. وإذا كان البعض لدينا يرى أنها ظاهرة وهمية فإن الكثيرين من الأخوة العرب يرون هيكل رمزا من الرموز المصرية التاريخية مثله مثل الأهرامات وأم كلثوم ونجيب محفوظ وغيرهم من الرموز وبالتالي فإن عملية هدم الرموز لا تصب في المصلحة الوطنية وإن كانت دراسة مسيرتهم مع نزع التقديس المحيط بهم أمر حيوي ومطلوب، لكن يبقى الفرق كبير بين الهدم والتقييم.

و بقطع النظر عن الخلاف المتجدد عند الحديث عن هيكل، لم يٌكتب في رأيي إلا القليل عن الجانب الصحفي والمهني الذي أضافه هيكل للمهنة. على سبيل المثال، أسس الأستاذ هيكل قسم "الديسك" عندما كان رئيساً لمؤسسة الأهرام وأصبح هذا القسم هو قلب الجريدة ومصدر تميزها خاصة وأنه يقوم بإعادة الصياغة لما يكتبه الصحفي.

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: المحنة .. والمنحة
وقد توسع دور الديسك لدرجة كبيرة غطت على ضعف مستوى الكثير من الصحفيين وانعدام مهاراتهم لدرجة أفسد بها الصحافة، لأنه لم يعد واضحا أين الخط الفاصل بين ما كتبه الصحفي وما كتبه الديسك/مان/وومن، وساوى بين المتميز و منعدم الكفاءة فظلم العديد من الصحفيين وضخم من أسماء البعض الآخر الذين نقرأ لهم فنٌعجب بأخبارهم وتقاريرهم في حين أنها أسماء "فشنك" من صنع الديسك وهي قليلة الموهبة ضعيفة المستوى. ومهنة الصحافة من المهن التي تعتمد على الموهبة بشكل كبير فإما أن يكون الصحفي صاحب موهبة ويجيد الكتابة، وإما أنه لا يصلح لهذا العمل؛ غير أن هيكل جعله يصلح دون قصد ولا يمكن تحميله مسؤولية ما حدث لأن دافعه كان رائعا، غير أن الأمر كان يتطلب التدريب المستمر للصحفي لتحسين مهاراته وفي المقابل الحد من تدخل الديسك وترك المهنية والحرفية هي التي تطرد الدخلاء عنها!
أمر آخر مهم ومثير للجدل وهو أن هيكل قد صنع نمطا جديدا في علاقة الصحفي بالسلطة ليس فقط لأنه كان الصحفي الأول المتحدث بإسم ثورة يوليو وركن من أركان نظام عبد الناصر ولكن أيضا لأنه يظهر بصورة من يعلم ما لا يعلمه غيره. وهذا تحقق له بفضل قدرته للوصول للمعلومة في مطبخ السلطة. لذلك تغير اتجاه العلاقة، وأصبح المسؤولون والحكام هم من يسعون لهيكل للاستماع إليه لأنه يدري ما لا يدرون ثم لأنهم كحكام يحتاجون لصحفي في قيمته وقامته يعبر عن رؤاهم ويقدم رؤاه عما ينقصهم.

وأستحضر ما ذكره أحمد حمروش عندما سأل عبد الناصر لماذا جعل هيكل قريبا منه لهذا الحد، فأجابه: "هيكل هو الوحيد الذي فهمني وفهم ما يدور في عقلي قبل أن أترجم فكري إلى كلمات؛ إنه ببساطة يجلس في رأسي!".

كلمة أخيرة: صنع هيكل صورة ذهنية عن الصحفي هي الأقرب للانتماء البرجوازي رغم انحيازاته لقضايا الغلابة لكن مصطفى أمين صنع صورة ذهنية أخرى للصحفي هي أقرب للبروليتاريا رغم انحيازه للأفكار الليبرالية. ورغم كون المدرستان لم تبق منهما أركانا عتية بل مجرد أصوات تعبر منفردة عن روح تلك الأفكار والاتجاهات إلا أنهما لو بعثا من قبريهما لتألما وبكيا معا على صورة الصحفي الذهنية التي لن ترضيهما وعلى مستواه المتراجع لدرجة أصبح الغالبية مجرد "بوسطجية"! لذلك مهما نتفق أو نختلف، نعارض أو نؤيد، يستميلنا رأي محمد علي خير أو مفيد فوزي لكن في النهاية يبقى هيكل ومصطفى أمين وأحمد بهاء الدين وصلاح الدين حافظ وصلاح منتصر ومفيد فوزي وقبلهم إحسان عبد القدوس والتابعي وغيرهم من أهم شاهدي العصور ورموز لمصر على مدى أكثر من قرن من عُمر الزمان وسطروا صفحات سيحكم عليها التاريخ ونتطلع أن نرى في بلاط صاحبة الجلالة قامات مثلهم وأفضل، ولم لا ومصر دائما ولادة؟!
[email protected]
تابع موقع تحيا مصر علي