عاجل
السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق 21 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألفة السلامي تكتب: النصف الثاني من العمر

تحيا مصر

كنت أداوم على زيارة دور كبار السن من حين لآخر وتخليت عن ذلك الواجب وفقدت بذلك تلك المتعة وذلك العطاء المتبادل بعد انتشار وباء كورونا والالتزام بحالة الإغلاق التي نحرص عليها خوفا على الآخرين قبل الخوف على النفس من عدوى يشتد عودها مع الأيام وتهدد خطورتها الأرواح. وقد فرضت الظروف على كبار السن في هذه الدور الحرمان من زيارات هي أقرب إلى جبر الخواطر و"الطبطبة" في وقت هم في أشد الحاجة للدعم والمساندة وربما أكثر من أي وقت مضى حيث أصبحوا في مواجهة قسوة الحياة في النصف الثاني من العمر ولم يبق لديهم سوى عكاز الذكريات يسندون عليه ويتأملون قصص الماضي من بين حديد الزنزانة التي دخلوها اضطرارا فحُرموا من حضن الأولاد وقبلة الأحفاد ودلالهم ومودة الأهل والأصدقاء، ولم يعد يربطهم الآن سوى الدعاء الذي يخترق سد البعاد السميك القاسي على القلوب.

ولعل بعضكم يتذكر استغاثة الحاجة عبلة الكحلاوي في بداية أزمة كورونا لإنقاذ نزلاء دار الباقيات الصالحات بعد أن أصيب 14 شخصا يقيمون في الدار وكيف انهمرت دموعنا عندما استمعنا لتفاصيل موجعة، خاصة عند اكتشاف أن بعض أبناء النزلاء- وأحدهم من كبار القوم- رفضوا استلام آبائهم من الدار خوفا على أسرهم من احتمال العدوى بكورونا. وقد هبت الوزارات والمجتمع المدني آنذاك لتقديم يد العون؛ ثم سرعان ما نسينا المسنين بعدما ما مسحنا دموعنا ومعها لوعتنا. ولا أظن أن الحاجة زالت الآن للمساعدة بل إن هذه الدور تقوم بدور مهم وكبير قد لا يستطيع أفراد الأسرة القيام به ويكتفون بسداد عدة آلاف من الجنيهات علها تغسل أي شعور بالذنب يمكن أن يتسرب إلى قلوب الأبناء نتيجة التقصير المعنوي.

وتلح علي قصص عن بعض كبار العائلات التي التقيت آباءهم على سبيل الصدفة في دور المسنين وكيف كنت أعتزم مرة على التقاط صور تذكارية خلال جولتي دون أن أعلم شيئا عن هوية تلك الشخصيات لولا أني فوجئت بصراخ عميق يندفع من أحدهم راجيا في غضب مختلط بالألم عدم التصوير مبررا اعتذاره بأن إبنه الباشمهندس وإبنته الدكتورة "يزعلوا" وسوف تغضبهما الصور لونشرت1

ولم أكن لأفعل أبدا لأن تلك خصوصية يجب احترامها. كما أني لن أتطرق لأسماء كبار الشخصيات الذين تركوا آباء لهم وحيدين في النصف الثاني من العمر واكتفوا بدفع معلوم شهري مقابل خدمات الاعتناء بهم مع تقدمهم في العمر وما يتطلبه ذلك من عناية خاصة دون الخوض في الأسباب والمبررات التي يسوقها الأبناء حتى من قبل أن يكون السبب الرئيسي ملتحفا بغطاء القبول والتفهم بسبب الخوف من عدوى كورونا! وسأحاول أن أنفذ نصيحة قالها لي أستاذي الكاتب الكبير محسن محمد يوما تعليقا على مقالاتي وهي الحرص على عدم الكتابة "بالمرزبة" والكتابة برقة الريشة"؛ ربما ليس مهما أيضا ذكر الأسماء بعد أن أصبحت العبرة من القصة هي الأهم!

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: متحرشون بالرجال!

وهذا يقودنا إلى موضوع كبار السن عامة في المجتمع وكيفية التعامل معهم ليس من المنظور الأسري الضيق فقط وإنما من منظور أوسع وهو الخطة التي تضعها الدولة للاهتمام بهم بقطع النظر عن قيمنا وتقاليدنا التي تحث على رعاية الوالدين، وخاصة في ظل الاتجاه المتزايد لـ "تشيخ" السكان في مصر كما هو في العالم أجمع مما يجبر الحكومات وصنّاع القرار على أن يكونوا أكثر ابتكاراً في تلبية احتياجات الرعاية الصحية المتغيرة. وفي معظم البلدان، تزداد نسبة السكان في الفئة العمرية أكثر من 60 عاماً على نحو أسرع من أي فئة عمرية أخرى، وذلك نتيجة لطول العمر المتوقع وانخفاض معدلات الخصوبة. وهناك حوالي 15% من البالغين بأعمار 60 سنة فما فوق يعانون من اضطرابات نفسية وفقا لمنظمة الصحة العالمية وهذه الاضطرابات مسؤولة عن 6.6% من مجموع حالات العجز الكلي لدى هذه الفئة العمرية. وأكثر الاضطرابات العصبية النفسية شيوعاً في هذه الفئة العمرية هي الخرف والزهايمر والاكتئاب، في حين تصيب اضطرابات القلق 3.8% من السكان المسنين. وفي مصر، يبلغ عدد المسنين 6.5 مليون مسن منهم ( 3.5 مليون للذكور و3 مليون للإناث ) بنسبة 6.7٪ من إجمالى السكان وفقا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العام والإحصاء في شهر يناير 2019.

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب عن "طبيب الغلابة": المريض يموت من الظلم أيضًا !

ونعاني من نقص ملحوظ خاصة في البلدان النامية في التعرف على مشاكل الصحة النفسية من قِبَل المتخصصين في مجال الرعاية الصحية ومن قبل كبار السن أنفسهم، ونلمس في تجارب العائلات التي لديها كبار سن أن هناك ما يشبه "وصمة العار" التي تحيط بالعلل النفسية والتي من شأنها أن تجعل الناس يترددون في طلب المساعدة.
وقد أنشأت وزارة الصحة والسكان في مصر عام 2015 مراكز وأقسام رعاية خاصة للمسنين لضمان تلبية الاحتياجات الخاصة بكبار السن بهدف تحسين جودة الحياة لهم. وقد لاحظت بنفسي وجود أقسام خاصة بكبار السن داخل المستشفيات المصرية. ومازالت الخطة تحتاج إلى المزيد من العناصر الخاصة بالرعاية الشاملة وليس الصحية فقط إضافة إلى الحماية الاجتماعية. وكم سررت بثمن التذكرة المخفضة في المواصلات العامة التي لا تتجاوز النصف جنيه لمن تعدى سن الستين وبمجرد الاستظهار ببطاقة الرقم القومي مثلهم في ذلك مثل ذوي الإعاقة كما أن تذكرة القطار هي النصف حاليا ويمكن استخدامها مرتين سنويا. ومع تعميم التأمين الصحي تدريجيا نطمح إلى دخول كبار السن تلقائيا ضمن هذه المنظومة. و رغم كون وجود كبار السن يعد مؤشّرا على تحسّن الصحة، غير أنّ هناك إلى جانب هذه الفوائد مشكلات صحية محدّدة باتت مطروحة حاليا وتستوجب كسر الصور النمطية الخاصة بالمسنين واستحداث نماذج جديدة في مجال الشيخوخة حتى يمكن الاستفادة من مشاركة المسنين في مجتمعاتهم المحلية على نحو نشط وتشجيعهم على تقديم خبراتهم ومهاراتهم، وهم في أشد الحاجة أن نشعرهم بأهمية تلك المساهمات التي يقدومنها سواء كأعضاء داخل الأسرة أوكمتطوعين بخدماتهم وأنشطتهم سواء لأسرتهم الصغيرة أو للمجتمع ككل؛ كما أن نسبة كبيرة من المسنين يستطيعون العمل بفاعلية والمشاركة ضمن القوى العاملة بإتقان. وعلى الرغم من أن معظم كبار السن يتمتعون بصحة نفسية جيدة، إلا أن العديد منهم معرضون لخطر الإصابة باضطرابات نفسية وعصبية، أو مشاكل إدمان بعض الأدوية والمهدئات، فضلاً عن علل صحية أخرى مثل السكري، وضعف السمع والإبصار وكلما ازدادت أعمار الناس كلما أصبحوا عرضة لأمراض مختلفة وستعتمد مدى الفرص المنبثقة من طول العمر بشدة على عامل أساسي واحد ألا وهو جودة الصحة العامة. كما يتطلب "تشيخ" السكان استجابة صحية عمومية شاملة، ولكن النقاشات حول ما يجب أن تشمله هذه الاستجابة لايزال يحتاج إلى المزيد من الأفكار والمبادرات التي تليق بشعب عطوف بطبعه وهو الشعب المصري.
ولن نصل إلى استعادة هذه القيمة الراقية إلا عندما نبدأ بأنفسنا على المستوى الشخصي فنتخلص من أنانية مقيطة، ونحمل عبء الآخرين- آبائنا وأمهاتنا وجدودنا وجداتنا- داخل أنفسنا ونخصص حيزا دائما من تفكيرنا لهم، والاستماع إلى أصواتهم ومشاغلهم كلّ حين، لننتشلهم من غربتهم بعيداً عن الحصار الدائم الذي يشعرون به مع تقدم أعمارهم. وعندما نحملهم بين جنبينا على الدوام سنرى حتما أنفسنا كحقيقة ناصعة وإذا استطعنا أن نصادقهم وأن نستبدل الأدوار في كبرهم فنكون نحن الآباء والأمهات لهم وهم الأطفال ..حينئذ سنتأكد أننا سنصل إلى مرافئنا سالمين عند تقدم أعمارنا بعد أن نبعدهم عن الإبحار بين الأمواج الصاخبة ونوصلهم إلى شواطئ السكينة في ربيع العمر.
تابع موقع تحيا مصر علي