ألفة السلامي تكتب عن "طبيب الغلابة": المريض يموت من الظلم أيضًا !
ADVERTISEMENT
الأطباء فى مصر دائما نجوم يعرفهم الناس أكثر من أي شخص آخر. وقد شهدت مصر طوال تاريخها أطباء كبارا قيمة وقامة، أغلبهم كان الطب بالنسبة لهم رسالة، وليس مجرد مهنة تدر دخلا. ولا شك أن الطب من أنبل المهن التي لا يمكن أن تلغى فيها عاطفة الإنسان لأن الطبيب هم منقذ الإنسان من ألمه وهمه وغمه فيتحول بالتالي إلى ملاك الرحمة ويتربع على عرش القلوب فيعشقه الناس كما يعشقون أم كلثوم وفيروز وسعاد حسني وعادل إمام وحسن شحاتة والخطيب وأبو تريكة وصلاح وغيرهم.
أعرف أن الكثير من الأطباء يمقتون الحديث عن إنسانية الطبيب وبعضهم قد يتبادلون السخرية والنكات بمناسبة الحديث عن طبيب الغلابة الراحل محمد مشالي وربما يستنكرون كيف تتحول وفاته إلى "ترند" على مواقع التواصل الاجتماعي بل ربما أصاب الشعب المتحمس لهذا الطبيب القدوة اللعنات من هؤلاء ونعتوه بأوصاف مقيتة مثل الجهل والغباء .. وقد يرون أن تمسك الطبيب بإنسانية المهنة والانحياز للمريض غير القادر على دفع الفازيتة هو تجنيا عليهم ورغبة في تفقيرهم وهذا أرجعه إلى أن الطب قد أصابه ما أصاب غيره من المجالات بسبب التحولات الاقتصادية والاجتماعية، لكن نظل نكن لغالبية الأطباء المخلصين لقسمهم الاحترام والتبجيل ونحفظ لهم مكانة رفيعة في النفوس ويكفي أنه حتى وقت قريب كان يطلق على الطبيب لقب الحكيم وهو ما يوضح مكانته في المجتمع. ويظل هناك أطباء يحملون رسالة الطب الإنسانية، ومازال بعضهم يعالجون المرض بأسلوب المحارب وليس بعقلية "البزنيس مان" وربما لا يظهرون في الإعلام وليسوا من نجوم الفضائيات لكنهم نجوم عند مرضاهم فى وحدات صحية ومستوصفات ومستشفيات عامة فقيرة في إمكانياتها تخدم القرى والمراكز الريفية والحضرية المكتظة بالسكان، ويبذلون جهودا خارقة لعلاج المرضى بإمكانات ضئيلة وفي ظروف صعبة ويحرصون على احترام قسم "أبوقراط" فيستحقون لقب "أمراء" الإنسانية.
اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: المحنة .. والمنحة
وفي ظل الزيادات المتتالية في أجور الأطباء تضطر العائلات خاصة الفقيرة للذهاب إلى العيادات الشعبية كونها أقل تكلفة كما أن روشة الطبيب الإنسان تتضمن أدوية أرخص وبنفس فاعلية أدوية أخرى لكنه يعلم ما تقدر اليد على دفعه. وأستحضر في هذا الإطار ما قاله الطبيب النفسي عادل صادق من أنه اكتشف بعد سنوات من ممارسة مهنة الطب سببا جديدا لموت الإنسان ألا وهو الظلم!
ولعل ارتفاع كشف الطبيب وعدم القدرة على دفع الفازيتة من مظاهر ذلك الظلم الذي يقصده الدكتورعادل صادق أو أن الظلم يتمثل جليا عندما يفقد المريض كرامته وتثقب مصاريف العلاج جيوبه. ولكن الدكتور محمد عبدالغفار مشالي وغيره كثيرون كافحوا هذا الظلم بوعي وتصميم. ولعلنا مثلما نرى الطبيب الذي يحدد مقابل كشفه بمئات الجنيهات ويتباهي بأن عيادته لا يدخلها إلا مشاهير الفن والكرة والسياسة والبزنس نجد في المقابل -والحمد لله- الدكتور مشالي وأمثاله يصرون على أن كشفهم لا يتجاوز بضع جنيهات بل يقدمون أحيانا الدواء لمرضاهم العاجزين عن شرائه. ولن أخوض في ذلك الجدل الذي يردده أطباء لتفسير أسباب ارتفاع أسعار الكشف و الخدمات في العيادات والمستشفيات، حيث نعرف جميعا أن الخدمة الطبية مكلفة للغاية، لكن البحث عن حلول سيوصلنا حتما إلى بر الأمان بعيدا عن تلك القناعة التي قالها لي طبيب يوما ما مفادها أن الأطباء يعالجون الألم و مهما كان المرضى فقراء فإنهم قادرون على إنزال المال من السماء ليتخلصوا من الألم! ومن بين الحلول التي يبادر بها أطباء خاصة في مناطق ريفية و شعبية تخصيص يوم كامل أو أكثر لخدمة غير القادرين على دفع كشف الطبيب وكم من الأطباء أيضا يعملون في جمعيات ليوم أو يومين حيث يكون الكشف مدعما من المجتمع المدني. ولابد أن نعترف أنه حتى الآن لايمكن للدولة ممثلة في وزارة الصحة والتعليم العالي والمجالس الطبية أن توفر تلك الخدمات المدعومة على الوجه الأكمل وتتكفل بغير القادرين مع حفظ كرامتهم وحياتهم. ولحين استكمال منظومة التأمين الصحي وتعميمها في المحافظات جميعها ليس قبل عام 2029 وفقا للخطة التي وضعتها الدولة فإن الحاجة مازالت كبيرة للطبيب الإنسان من أمثال الدكتور مشالي ومن أمثال المستشفيات المجانية التي يديرها ويمولها المجتمع المدني مثل مستشفى السرطان للأطفال ومستشفى القلب للأطفال ومستشفى الحروق وعديد المستشفيات الأخرى التي هي بصدد الإنشاء وقائمة على التبرعات من المصريين النبلاء. كما أن المبادرات الحالية من الحكومة للإسراع بإنشاء مصانع الدواء والمستلزمات ستكون ناجعة بدورها لتحقيق اكتمال المنظومة المنشودة للصحة في مصر و الكفيلة بالحفاظ على كرامة المريض وجيبه من الثقوب والعراء.
اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: متحرشون بالرجال!
ولست ممن يهوى الوقوف على الأطلال لكن مناسبة مهمة مثل التي نعيشها برحيل طبيب قدوة هو الدكتور المشالي الذي خرج في جنازته آلاف المودعين ونعاه الفقراء والحكام على حد السواء ليعلمنا في حياته كما في مماته قيمة الطبيب الإنسان في مجتمعه فلابد إذن من تذكر أن تاريخنا مليء بهؤلاء الملائكة الطاهرين وبقيمتهم الكبيرة التي تعود إلى أيام الفراعنة حيث كان يطلق على الطبيب إسم "سنو". ويذكر هيرودوت تخصصات الأطباء فلكل مرض طبيب تخصص فيه، بعضهم متخصص في العيون، وبعضهم في الرأس، وبعضهم في الأسنان، وبعضهم في الأمعاء،ومن أشهر أطباء الفراعنة إيمحوتب أشهر أطباء العصور القديمة ، ولإسمه معنى فهو "الذي أتى في سلام". كما كان هروفيلوس عالما في التشريح في العصر الإغريقي أبرز علماء الطب في الإسكندرية، وكانت أبحاثه رائدة في المخ والأعصاب والكبد والرئتين والأعضاء التناسلية. كما كان أراسيستراتوس عالما في وظائف الأعضاء ورائدا في الأبحاث حول وظائف القلب والمخ حيث توصل إلى التفرقة بين أنواع ووظائف الأعصاب في الجسم. وكذلك كانت مدرسة الطب في الإسكندرية التي أسسها فيلينوس عام 280 ق.م منارة في عصرها في تعليم الطب وعلاج الأمراض.
ويذكر عالم الآثار الدكتور زاهي حواس أن الإسكندرية ظلت تحتفظ بشهرتها في هذا المجال، على الأقل حتى أواخر القرن الرابع الميلادي، عندما كتب اميانوس ماركينوس يقول إنه كان يكفي الطبيب للتدليل على مهارته قوله إنه تعلم في الإسكندرية، وينهض دليلاً على مكانة الإسكندرية في عالم الطب كثرة عدد الذين كانوا يقصدونها من مختلف أنحاء الدنيا لدراسة الطب والتعلم على أيدي أساتذة الطب والجراحة. وفي العصور الحديثة تأسست أول مدرسة للطب في مصر والشرق الأوسط بأبي زعبل 18 مارس 1827 وربما لن تكفيني هذه المساحة للحديث عن أطباء عظام عرفتهم مصر ليس فقط في التاريخ القديم بل والحديث أيضا من أمثال مشالي ولعل جيلي سمع عن الدكتور محمد النبوي المهندس أستاذ طب الأطفال بكلية طب قصر العيني والذي تولى وزارة الصحة في الفترة من 1961 حتى 1968 وأنشأ مشروع تنظيم الأسرة وساهم في إنشاء نحو 1100 وحدة صحية ومستشفيات عامة عديدة ومعهد القلب. كما يعرف جيلي الدكتور إبراهيم بدران رائد الجراحة الحديثة فى الشرق الأوسط، ووزير الصحة الأشهر بين وزراء صحة مصر (1976) كما تعرف الأجيال الحديثة الدكتور محمد غنيم أحد رواد زراعة الكلى الأمهر و الأشهر في العالم، ومؤسس مركز عالمي في مجال الكلى والمسالك البولية في مدينة المنصورة المعروف بإسم "مركز غنيم". ومن لا يعرف الدكتور مجدي يعقوب "ملك القلوب". والقائمة طويلة والأهم أن ما يجمعهم هو لقب الإنسان سابقا على لقب الطبيب، فالطبيب المصري استطاع أن يحافظ على صدارته ويكون من أفضل وأنجح الأطباء فى العالم بالرغم من كونه يعمل فى ظروف لا تقارن بجودة الرعاية في الدول المتقدمة في مجال الخدمات الصحية لكنه يحقق نتائج مذهلة بفضل تميزه ومهاراته الفردية وإخلاصه لمهنته وإنسانيته التي تتغلب على الكثير من القصور في الإمكانيات.
والرسالة المهمة التي تدعونا للترحم على الدكتور مشالي لأنه يذكرنا بها حتى وهو في قبره ينام مرتاحا هانئا بمحبة الناس ودعائهم له هي أن ﻤﻬﻨﺔ ﺍﻟﻁﺏ ﺘﺴﺘﻠﺯﻡ ﻤﻤﻥ ﻴﺯﺍﻭﻟﻬﺎ علما مدى الحياة ومهارات ﻭﻤﻭﺍﻫﺏ ﺨﺎﺼﺔ لكن قبل هذا وذاك أخلاقا وميثاق شرف وقسما يتم تفعيله في كل كشف أو عملية وإخلاص لقسم المهنة وليس مجرد كلمات يرددها الطبيب لمزاولة المهنة وهذه الشروط تغطي نصيبا هاما من العلاج حتى لا يصبح المريض في ذمة الجشع ولايغرق في وحل مقيت بين كلفة الطبيب ودواء الصيدلية ومختبرات التحليل والأشعة والتي يقرر كل منها أسعاره على هواه لدرجة أصبحت أرقامهم فلكية لا يمكن أن تتحملها جيوب الفقراء بل وغير الفقراء أيضا!
[email protected]