عاجل
الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
عمرو الديب

ألفة السلامي تكتب: الإنسانية في قبضة "كورونا"

تحيا مصر

حين أسافر بين صفحات كتاب البشرية الحديث وأتجول في فصول الأوبئة به، أتيقن أن الأنواع الأكثر فتكًا من الفيروسات التي ألحقت دمارًا لم يحقق أي منها تلك النجومية العالمية التي يحققها حاليا فيروس كورونا، ربما يلعب "إعلام كورونا" دورا في معرفة هول الفوضى العالمية الذي تسبب فيها هذا الوباء، حيث هناك إدمان اللهاث وراء الأخبار بنفس وتيرة الانتشار الوبائي وكأن البشرية ملدوغة بـ"فوبيا كورونا"، ومن المستحيل التهرب من وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر صورًا يومية للمواطنين في أرجاء مختلفة من العالم يصطفون بكماماتهم وقفازاتهم أمام المتاجر الكبيرة الفارغة ويقاتلون الوقت الطويل والممل للحصول على ورق التواليت وأدوات النظافة والتعقيم.
 جميعهم يخرجون يلتمسون الأمان من خلال التبضع لكنهم لا يشترون إلا الذعرالذي يخزنون كميات هائلة منه في كل مرة!.

إنه "رهاب كورونا" أو الخوف المرضي النفسي يتجسد وحشا كاسرا وتتشكل معه مصطلحاته الخاصة وتأثيراته المختلفة ليس في الجانب الصحي والنفسي فحسب وإنما في كافة العلوم والمعارف.

كلما حدثت أمي في التليفون واستمعت إلى تضخيم الحروف وهي تنطق بخوف "وباء"- مع ضمة على الواو- أدرك على الفور كم سافرت والدتي بعيدا في ذاكرتها لتستدعي ما مرعليها وقومها من قسوة جراء أوبئة فتاكة اختطفت معها عائلات وعروش بأكملها لدرجة مازالت تلك الذكريات حبيسة تنازع للفكاك من قبضة الوباء!.

وخلال الأسابيع الماضية، كنت أتأمل إلى أي مدى تغيرت سلوكيات "العاقلين" من حولي وأصبحت "غير عقلانية" وأدركت إلى أي مدى أصبح رهاب الفيروس يطلق العنان ليس فقط على أجسادنا ولكن داخل عقولنا أيضا. كنت أقف أمام ماكينة الصراف الآلي قبل عدة أيام في انتظار دوري. حان دور سيدة تسبقني استلت بيدها التي ترتدي القفاز زجاجة كحول من حقيبة يدها ورشت الماكينة ثم مسحت أزرار الماكينة بمنديل مبلل بالكحول. وقامت بعملية السحب ثم رشت الفلوس بالكحول لتطهرها ووضعتها في كيس بلاستيكي وعادت لترش الكيس بالكحول قبل وضعه في حقيبتها، وبعد ذلك انتزعت القفاز وتخلصت منه وقامت بتطهير يديها بالكحول ثم رشت وجهها وأزالت الكمامة من على وجهها بهستريا وتخلصت منها وسحبت واحدة جديدة من حقيبتها وكررت تطهير يديها بالكحول، ثم سحبت قفازا جديدا وارتدته ثم طهرته... ستستمر هذه العملية بلا شك عندما تستقل سيارتها؛ ستعقم المفتاح والمقود ثم ستكرر الأمر عند وصولها لمنزلها.

لماذا يحدث كل هذا بالمبالغة المرهقة؟ لا شيء يثير إستجابة الإجهاد البشري أكثر من عدم اليقين: هل ستكون هدفا قريبا للفيروس.. وهل سينقل لك العدوى إبن أو زوج أو زميل أو حتى ماكينة سحب الأموال؟! لقد أبدع في وصف هذه الحالة الأديب الإيطالي اليساندرو مانزوني في روايته "الخطيبان" -التي صدرت في بداية القرن التاسع عشر- عندما هاجم الطاعون منطقة لامبارديا في إيطاليا حيث تدور قصة حب بطلي الرواية وأصبح الناس ينظرون إلى بعضهم "كملوثين محتملين يجب تحاشيهم"، وبالتالي استنفرت الدوافع لتواجه عدوا ملوثا محتملا ناقلا للموت.

بمعنى آخر هي معركة البقاء لدى الإنسان، ليعود بذلك إلى غريزة الإنسان البدائي الذي يحارب عدوا في مكان ما من أجل البقاء، لكن العدوجلس بالفعل داخله وليس في مكان آخر، وسرعان ما يتحول إلى "كورونوفوبيا" لأنه عدو غير مألوف ولا نعرف إمكاناته!
ولأن معظمنا لا يعرف الكثير عن الفيروسات باستثناء أنها يمكن أن تجعل الناس يمرضون أو يموتون- حتى أقلية منا تدرك أن 8 ٪ من الجينوم البشري مشتق من الفيروسات القديمة- نعم، تشكل الفيروسات جزءًا من جوهرنا البيولوجي! فكر بالأمر...ستجد نفسك مع القدر الهائل من المعلومات المتدفقة حول كورونا وبدون القدرة على تقويمها بشكل نقدي أصبحت ضحية سهلة لمرض الرهاب.
ويشير عالم الأنثروبولوجيا النيوزلندي مايكل جاكسون إلى أن النفس البشرية غير قادرة على العيش مع الغموض لفترة طويلة جدًا. ثمن القلق المزمن هو انهيار نفسي. هذا بالضبط ما نراه الآن على مستوى العالم.

في التاريخ الحديث كان هناك بعض الأحداث الفارقة التي قامت بتغييرات دراماتيكية على قلق البشرية الجماعي ناهيك العمليات الإرهابية وتفجير برجي التجارة العالمي.

اقرأ أيضًا.. ألفة السلامي تكتب: المحنة .. والمنحة

وفي ضوء ضعف الاستجابات العلمية حتى الآن في كبح جماح الفيروس المتحورعابر الحدود، يظل رهاب كورونا يخضع جهاز مناعة الإنسان ويحطم دفاعاته، مثلما كانت الذئاب الضارية قديما تصرع الإنسان البدائي، كما يبقى خصما هائلا لوقت نجهل مداه طالما مازال "الفيروس الذكي" قادرا على إصابة الجموع البشرية بسهولة وتكرار غير مسبوقين.

وهكذا يبدو جليا أن الفصل الجديد في رواية الفيروسات والخاص بكورونا لن يكون أقل فتكا مما مرعلى تجارب الإنسانية السابقة بل هو مستمر في إحكام قبضته عليها تاركا جروحا غائرة لا تمحى على النفسية الجماعية قد تدفع إلى ضرورة التعجيل بالبحث عن إضافات ومساهمات علمية عميقة لـ "علم نفس الأوبئة".
تابع موقع تحيا مصر علي