الأرمن يروون شهادات النجاة وحلم العودة لأرض الأجداد
ADVERTISEMENT
أمسكت بإناء فضى، عليه نقوش ورموز لاتينية، راحت تتفحصه، تمرر يدها على النقوش البارزة التى لاتزال شاهدة على عصر لم تعاينه.
نانور زوهرابيان، مصرية من أصل أرمنى، لاتزال تحتفظ بالـ«تاس» أو «الكوز» كما تسمع، ورثته عن شقيقة جدتها التى احتفظت به مع مقتنيات أخرى هربت بها أثناء المذابح العثمانية (التركية) لمواطنى أرمينيا فى إبريل 1915، والتى انتهت بمقتل مليون ونصف المليون أرمنى من أصل 2 مليون كانوا يعيشون على حدود الخلافة العثمانية المنهارة، وتشريد من بقى على قيد الحياة منهم فى دول مختلفة.
وضعت «نانور» التى يعود أصلها إلى مقاطعة «قيساريا» الإناء ضمن مقتنيات عرضتها بمناسبة مرور الذكرى المائة على الأحداث، تنظر يوميًا إلى اسم شقيقة جدتها المحفور على الإناء الذى يجاوره مشط وفرشاه مصنوعان من الخشب، وبمنتصف كل منهما لوحة معدنية صغيرة عليها الاسم ذاته.
قصص «الإبادة الجماعية» كما تسميها لاتزال عالقة فى أذهان من تبقوا من أفراد الأسرة، تحفظها نانور فى مخيلتها منذ ألقتها أمها على مسامعها، الأم نقلت الحكايات بدورها عن جدة نانور، التى عايشت الأحداث ورأت بعينيها «المذبحة الكبرى» للأرمن على يد جيش الخلافة المنهارة.
روايات الهروب من المذبحة خطها الأجداد بأيديهم، وتناقلها الأبناء، وتعرضها «المصرى اليوم» بعد أن قابلت عددا من أبناء الجالية الأرمينية المقيمين فى القاهرة، الذين تقلص عددهم من 60 ألفا فى الستينيات إلى ثمانية آلاف أرمنى. ولد معظمهم فى #مصر ، لكن لايزال قلبهم عالقًا بالوطن الأم، يراودهم «حلم العودة» من جديد لأرض الأجداد.
«ملايين الأرمن تشردوا حول العالم»، حسبما تقول الدكتورة «نورا أريسيان»، الأرمينية التى ترجمت «شهادات الناجيين من الأرمن»، التى جمعها الدكتور سيتا كيليجيان، ووثقت المئات منها فى كتاب «شهادات ناجين».
«مازلنا نجد الجدات بيننا، وغدًا لن نراهن» تقول «أريسيان»، التى التقت بالهاربين من «المذبحة» ممن عاصروا ألأحداث التى وقعت فى 1897 و1908 و1915.
«لن أغفر للتركى طوال حياتى، ولو قيل لى إن شرط الدخول إلى الجنة هو الغفران للتركى لفضلت جهنم»، تقول أروسياك مارسوبيان، إحدى الناجيات، التى ولدت فى أضنا 1892، وتوفيت تاركة وثيقة مكتوبة بـ«الأرمينية» بها شهادة هروبها ومعاصرتها للأحداث.
تروى قصة هروبها: «كنا أخوين وثلاث أخوات، خلال مذابح القسطنطينية خرج والدى وشقيقى ذو الـ16 عامًا إلى الشارع ولم يعودا، وبعد البحث عنهم طوال شهر كامل، وجدنا قميصيهما ملطخين بالدماء ووجدهما أحد الأشخاص مذبوحين، وبعدها بأيام دخل الجنود الأتراك بحجة التفتيش وبدأ إطلاق النار».
«أخذوا أمى وهم يجرونها، أما أختى التى كانت فى الثامنة عشرة، فأطلقوا النار على بطنها، وكنت أنا مختبئة فى إحدى الزوايا، رأيتها تهوى على الأرض دون حراك، والدماء تسيل من بطنها»، تقول أروسياك.
بقيت أروسياك مختبئة إلى أن ابتعد الجنود، ثم ركضت نحو أختها لكن الأخيرة كانت قد فارقت الحياة «بدأت أبحث عن والدتى بين الجثث الملقاة على الأرض، وأنا أبكى وأصرخ، وفجأة وجدتها والدم يسيل من رأسها، وعندما اقتربت منها وجدتها تقول لى «اذهبى.. اذهبى»، فهمت أنها كانت تتظاهر بالوفاة خوفًا من الضربة الثانية القاتلة من الجنود».
تضيف: «أحد الأشخاص الذى كان ينهب الجثث وجد أمى وهى مجروحة ونقلها للمستشفى، لكنى لم أتمكن من لقائها، ومع اشتداد الحرب نقلتنا سفينتنا إلى #مصر ومنها إلى بيروت، وهناك أقمت فى مخيم للاجئين، وكنت كلما أسمع أن سفينة ما ترسو فى الميناء أذهب إلى الشاطئ لأبحث عن أقاربنا، لكن دون جدوى، وبعد أن بحثت عن والدتى وأخى لسنوات طويلة، علمت أن سفينتهما نقلتهما لليونان لكن لم يشأ القدر أن ألتقى بهم».. توفيت أروسياك فى 1996 ولم تتحقق أمنيتها برؤية والدتها وأخيها ولا تعلم إن كانوا سبقوها إلى الوفاة أم لا.
«إذا علمت أن الله غفر للأتراك الذين ذبحونا وجعلهم يستحقون الجنة فسأرفض الدخول إلى الجنة»، هكذا بدأ مانوك تشولاكيان، مواليد قرية آشود، عام 1898، والتى وثقتها «آريسيان» فى «شهادات الناجيين».
يقول مانوك: «فى بداية مايو 1915 تم حظر التجوال فى المنطقة لثلاثة أيام، وفى اليوم الثالث جاء الجنود الأتراك وأخذوا والدى ولم نره بعد ذلك، بعنا أثاث منزلنا بعد أن أمهلنا الأتراك ثلاثة أيام للخروج، وسرنا حتى وصلنا إلى مالاطيا، وظللنا فى رحلة السير فى الصحراء مع مجموعة من الهاربين حتى «دير الزور» فى سوريا تحت ضربات السياط من الجنود الأتراك، وبسببها ماتت والدتى.
تروى «نانور زوهرابيان» التى لاتزال تحافظ على مقتنيات الأجداد لـ«المصرى اليوم» قصة هروب أسرتها التى عاشت فى مدينة قيساريا ذات الـ60 ألف نسمة وقت «المذابح» منهم 20 ألف أرمنى ما دفع جدها، كبير أشقائه، للهرب بأسرته بطريقة تقول إنها «تراجيدية». افترقت الأسرة بسبب الأحداث، وتمكن جدها من الهرب على متن السفينة المتجهة إلى #مصر ، بينما استقل أشقاؤه المركب المتجه إلى اليونان وأقاموا فى «ملجأ للأيتام»، وبعد مرور سنوات تمكنت الأسرة من لم شملها فى القاهرة.
مقتنيات «نانور» التى جمعها الأجداد قبل الهرب إلى #مصر ، وورثتها عنهم، ضمت مجموعة من المفروشات اليدوية التى حاكتها جدتها بيدها، بالإضافة إلى مجموعة من الآنية النحاسية والفضية، ودميتان على شكل رجل وامرأة جسدت فيهما رحلة الهروب، محاولة رسم صورة «تخيلية» لأجدادها بـ«العرائس القطنية».
«لن أتنازل عن حقى» تقول «نانور» التى ولدت فى #مصر وتعتبر من «الجيل الثالث» للأرمن فى القاهرة، فانتماؤها لمصر لم يمنعها من «حلم العودة» إلى بلادها مجددًا، فالأتراك كما تراهم «شردوا ملايين الأسر الأرمينية، وشتتوا شمل عائلتها».
وقعت «مذبحة الأتراك للأرمن»، التى اعترفت بها 21 دولة ومنظمة حول العالم حتى الآن من بينها الاتحاد الأوروبى والفاتيكان، فى 24 إبريل 1915، ويقدر الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ المعاصر، لـ«المصرى اليوم» أن عدد من مات بسبب المذابح وما تلاها يصل إلى مليون ونصف، وفق إحصائيات دولية متعددة.
أرمين مظلوميان، مصرى أرمنى، عاش ما يزيد على 50 عامًا فى #مصر ، بعد أن هاجرت أسرته إلى القاهرة: «جدى وعائلته كانوا يعيشون حياة كريمة فى أرمينيا»، يواصل: «عمل جدى كتاجر للتين والخيول الأصيلة فى أرمينيا، وأثناء المذابح شهد قتل إخوته، وقتها كان فى شبابه، تمكن من الهرب مع عائلة أخرى متجهة إلى اليونان، وهناك عمل لسنوات قليلة مع شركة أوناسيس الذى تحول إلى أكبر مليارديرات العالم بعدها». يضيف: «لم يمكث فى اليونان كثيرًا فسافر إلى #مصر وعمل فى القاهرة حتى أصبح شريكا فى استوديو ناصيبيان للأفلام الأبيض والأسود».
«تركيا قتلت الأرمن بسبب رغبتها فى التوسع فى مملكتها، ورفض حركات التحرر الأرمينية»، يبرر مظلوميان المذابح التركية التى قال إن هدفها هو «إعلاء القومية التركية العثمانية».
مظلوميان الذى قتلت أسرة جده بالكامل فى المذابح التركية، استطاع توثيق آلاف الحالات منها خلال عضويته فى «لجنة إحياء ذكرى مئوية الإبادة الأرمينية».
يقول مظلوميان: «مرحلة مذابح السلطان عبدالحميد وقعت فى الفترة من 1894 حتى 1896، راح ضحيتها 300 ألف أرمنى خلال مطالبتهم بالإصلاحات السياسية فى الدولة العثمانية، والمرحلة الثانية فى 1909 راح ضحيتها 20 ألف أرمنى، والمرحلة الثالثة هى مرحلة الإبادة الكبرى فى 1915، وراح ضحيتها مليون ونصف، وتم تهجير الملايين للخارج».
يروى جيزميجيان هروب أسرته من تركيا فى 24 إبريل 1915، حين بدأت «مجازر الإبادة بقتل 200 من المثقفين». يقول: «حينما شاهد جدى ما حدث تنبأ بأن القتل لن يتوقف، وهو ما حدث بالفعل»، أحس جد فيكين مبكرًا بما سيجرى فهرب إلى إسطنبول ومنها استقل سفينة إلى #الإسكندرية ومنها للقاهرة.
«استقبال #مصر لنا كان مفاجئا ومطمئنا»، وقتها أصدرت الحكومة المصرية المستقلة حديثا عن الخلافة العثمانية قرارًا بإيواء كل القادمين من أرمينيا ومنحهم الجنسية المصرية. يقول جيزمجيان: «أصبحنا مصريين لنا كل الحقوق وعلينا كل الواجبات، وأنا خدمت فى #الجيش المصرى كمواطن عادى دون تمييز».
رواية «فيكين» وثقها الدكتور محمد رفعت الإمام، رئيس قسم التاريخ بجامعة دمنهور، فى دراسته عن القضية الأرمينية التى يقول إنها مرت بثلاث مراحل أولاها مرحلة «السلطان عبدالحميد» ونشأة القضية عام 1878، بموجب المادة 61 من معاهدة برلين التى نصت على إجراء إصلاحات فى «أرمينستان» وهى أرمينيا الحالية التى تمثل «الأناضول الشرقى»: «الإدارة العثمانية رفضت الإصلاحات واضطر الأرمن للدخول فى العمل الثورى»، يفسر أستاذ التاريخ بداية ما سماه «جرائم الإبادة العرقية» بحق الأرمن.
جارين جاربويان، مصرية من أصول أرمنية، وقفت فى النادى الأرمنى، مرتدية فستانًا أبيض، وزينت رأسها بتاج مطعم بقطع قماشية ذهبية اللون، وفى جعبتها مقتنيات «تراثية» لأجدادها الهاربين من أرمينيا، فلاتزال تحتفظ بمنسوجات يدوية بعضها لم تكتمل صناعته، لوفاة صاحبه أوقتله، وآنية معدنية، وخنجر نحاسى اللون، به نقوش لاتينية، و«أسورة» نحاسية، ذات بروز لامعة، يعود أصلها للقرن التاسع عشر الميلادى.
«جدتى بابا هو اللى هرب»، قالتها بعربية ضعيفة، وهى تروى قصة هرب والد جدتها على متن سفينة فرنسية أبحرت بهم إلى بورسعيد ومنها إلى القاهرة.
تقول «جارين» الفتاة العشرينية: «كان والد جدتى صغيرًا وقت المذبحة، وتمكنت والدته من إخفائه فى ملابس فتاة، ووضعت حلقا فى أذنه، لأن الأتراك كانوا يقتلون الشباب الأولاد، واستطاع الهرب على متن سفينة فرنسية، مع الأسر التى فرت من الحرب».
«نحاول الحفاظ على اللغة الأرمنية فى منازلنا والنادى حتى لا تندثر»، تفسر «جارين» سبب لهجتها العربية، وتقول: «اعتراف الاتحاد الأوروبى جيد فى حد ذاته لكن نريد إجبار تركيا على الاعتراف بالمذابح».
«مارلو زيمانيان»، مصرية أرمنية، لايزال قلبها متعلقا «بـأرض أجدادها التاريخية» كما تقول. ورغم مولدها فى #مصر ، إلا أنها تتمنى العودة: « #مصر بلدى وبافتخر بده وحين أذهب لأرمينيا أشعر أننى سائحة، لكن لا أنسى أيضًا أصولى الأرمنية، وحلمى بالعودة».
«مارلو» من أعضاء فريق الكشافة السبعين فى النادى الأرمنى، جمعت شهادات الأبناء والآباء حول الأحداث التى وقعت فى أرمينيا، بناء على طلب نادى الكشافة الذى كلف كل «ابن» أن يوثق حكاية عائلته. تروى مارلو لـ«المصرى اليوم» قصتها التى نقلتها عن جد والدتها: « الأتراك طرقوا باب البيت فى مقاطعة خاربيرت وأخذوا جد والدتى ولم يعد بعدها، وتمكنت جدة والدتى من الهرب بولد وبنتين من أبنائها إلى الحدود اليونانية عن طريق السفن».
اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة